صفحة 1 من 6 123 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 50 من 289
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي قصص خيالية للاطفال

    الثعلب المخدوع


    أحس الثعلب بسعادة شديدة فقد امتلأت معدته عن آخرها .

    ما ألذ تلك الأوزة.. هكذا كان يقول لنفسه وهو يسير بحذر وسط الغابة فقد هرب من أهل القرية بأعجوبة بعد أن سرق تلك الأوزة.


    وفي الصباح سمع الثعلب صوت بعض الفلاحين يتحدثون ويضحكون.. فكر الثعلب قليلاً ثم قرر أن يقترب ليعرف ما يقولونه ولكن دون أن يشعروا به.

    وبهدوء شديد اقترب منهم واختبأ خلف تل قريب.

    سمع الثعلب حديث الفلاحين فقد كانوا يتحدثون عن رجل مخادع ويقولون إنه كالثعلب في مكره.

    جلس الثعلب بعد رحيل الفلاحين يفكر في حديثهم ويسأل نفسه: لما وصف الفلاحون هذا الرجل بالثعلب. هل يحبون الثعلب فيصفونه به؟ .. وظل طوال الليل منشغل بهذا الحديث.

    وفجأة قال لنفسه نعم .. مؤكد أن الفلاحين يعلمون مدى ذكائي ولذلك يحبونني ويصفون بعضهم بي ولو ذهبت إليهم لأكرموني وقدموا لي الطعام.


    وفي الصباح ذهب الثعلب للقرية وسار في شوارعها يلوح للناس بيديه ويبتسم لهم ونسي أنه بالأمس سرق الأوزة منهم .. تعجب الناس من ذلك الثعلب !! .


    ثم أقبلوا عليه فظنهم سيرحبون به إلا أنهم أوسعوه ضرباُ بالعصي ، وقذفه الأطفال بالحجارة .. فأسرع هارباً والجروح تملأ جسده وهو يقول لنفسه: لقد خدعني تفكيري ونلت ما أستحق جزاءاً لسرقاتي..
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كانَتْ هُناكَ أَميرةٌ رائعةُ الجَمالِ. ماتَتْ أمُّهَا عندَ وِلادَتِها. كانَتِ الأَميرةُ لطيفةً جداً. وذاتَ شعرٍ ذهبيٍّ براقٍ.
    أرادَ والدُها الملكُ ، في يومٍ منَ الأيامِ ، إجبارها على الزَّواجِ من أميرٍ لا تحبُّهُ، ففكَّرتْ بِخِطَّةٍ لإلغاءِ العُرسِ، و طلبتْ أنْ تُصنعَ لَهَا ثلاثةُ فساتينَ جديدةً، أحدُها يجبُ أَنْ يكونَ ذهبياً كالشَّمسِ، وثانيها يجبُ أَنْ يكونَ فِضِّيَّاً كالقَمرِ ، و ثالثُها يجبُ أَنْ يكونَ مُشِعَّاً كالنُّجومِ.
    وَ طَلبَتْ أيضاً أَنْ يُصنَعَ لها مِعطفٌ من الفروِ ، بِقُبَّعَةٍ، و أَنْ يكونَ الفِراءُ مأخوذاً مِنْ جِلدِ أَلْفِ نَوْعٍ مِنَ الحيَوانَاتِ.
    ظنَّتِ الأميرةُ أنَّ طلباتِها مُستحِيْلةَ التَّحْقِيْقِ، أَوْ أَنَّ تنفِيْذَها يَستغرِقُ وقتَاً طويلاً يتأخرُ بهِ حفلُ زفافِها المشؤُوْمِ.
    لَكِنَّ والدَها الملِكُ الجبَّارُ سخَّرَ أَمْهَرَ الخيَّاطِيْنَ لتَجْهِيْزِ أَثْوابِها الثَّلاثةِ ، و طلبَ من صيَّاديهِ إحضارَ الفروِ مِنْ أَلْفِ نوعٍ منَ الحيواناتِ.
    و لمْ يستغرِقِ الأَمرُ طويلاً، حتى صارتْ الفساتينُ و معطفُ الفراءِ جاهزين، و أصبحَ الزَّواجُ قريباً أكثرَ مِمَّا توقَّعَتِ الأميرةُ المِسكينةُ.
    في اللَّيلِ، أفاقَتِ الأميرةُ سِرَّاً ، و فتحَتْ صندوقَ مُجَوهَرَاتِها وأخذَتْ مِنْهُ خاتَماً ذهبيَّاً، و قِرطاً ذهبياً أيضاً ،و كذلك عِقْدَاً ذهبيَّاً.
    ثُمَّ أخذَتِ الثَّوبَ الذَّهبِيَّ الذي يُشبِهُ الشَّمسَ ، و الثَّوبَ الفِضيَّ الذي يُشبِهُ ضوءَ القَمرِ، والثَّوبَ المُشعَّ الذي يُشبِهُ ضِياءَ نُجومِ السَّماءِ ، و وضعَتْهُم فوقَ بعضِهِم بعضاً ،بعدَ أنْ طَوَتْهُم بِإِتقانٍ.
    كانوا يسطَعُوْنَ و يَسحرُوْنَ ، حتَّى أَنَّهَا استَطَاعَتْ وضْعَهُم في قِشْرِةِ ثَمَرَةِ جَوْزٍ جَوْفَاءٍ، ثُمَّ ارتَدَت مِعطفَ الفِراءِ، و طَلَتْ وجهَهَا و يدَيْها بِهُبابِ الفَحمِ ، حتَّى لا يستطيعُ أحدٌ التَّعرُّفَ عليها، ثُمَّ تركَتْ قصرَ والدِها الملكِ الجبَّارِ.
    سارَتِ الأميرةُ وحيدةً في الغاباتِ حتَّى تعِبَتْ، فنامَتْ في جوفِ شجرةِ دِلْبٍ كبيرةٍ طوالَ اللَّيلِ.
    في اليَومِ التَّالي، كانَ الملكُ الشَّابُّ الذي يحكِمُ الغابةَ يصيدُ مع رجالِهِ، فوجدوا الأميرةَ النَّائمةَ، واتَّجهُوْا نحوَها.
    عِندَما سمِعَتْ الأميرةُ نُباحَ كِلابِ الصَّيدِ ، ووقْعَ حَوَافرِ الخيلِ، استيقظَتْ خائِفةً ، وقالَتْ لَهُمْ:
    - أَنَا فتاةٌ فقيرةٌ ، و يتيمةٌ ، خُذونِي معَكُمْ!"
    فأخذَها الصَّيَّادُوْنَ معَهُم إِلى قصرِ الملِكِ ، وأسْكَنُوْهَا في غُرفةٍ صغِيرةٍ مُظلِمَةٍ ، تَقَعُ تحتَ السُّلَّمِ ، بعدَ أنْ ظنُّوْا أَنَّها غُرفةٌ مُنَاسِبةٌ لِفَتَاةٍ ذات وجهٍ و يدينِ مَطلِيَّتَينِ بالشُّحَّار.
    كانَتْ تعملُ كثيراً في المطبخِ ، و كانَتْ تجلِبُ الماءَ ، والحطبَ، و تراقبُ نارَ الموقِدِ ، و تُنظِّفُ الرمادَ حولهُ.
    في اللَّيلِ كانَتْ تبكي مُعظَمَ الوقْتِ في غُرفتِهَا الصَّغيرةِ المُظلِمَةِ.

    في أَحدِ الأيَّامِ أُقيمَ احتفالٌ كبيرٌ في قصرِ ملِكِ الغابةِ الشَّابِّ،فقالَتِ الأميرةُ لكبيرِ الطبَّاخِينَ:
    - هَلْ أَستطيعُ التَّفَرُّجَ على السَّيِّداتِ الجميلاتِ و السَّادةِ في القصرِ؟
    قالَ كبيرُ الطبَّاخين:
    - اذهبي لِنصفِ ساعةٍ فقطْ، ثُمَّ عُودِي لمُِراقبَةِ نارِ الموقِدِ، وإزاحةِ الرَّمادِ عنْهُ.
    ذهبَتِ الفتاةُ المِسكينةُ إلى غُرفتِهَا ، و نظَّفَتْ نفسَهَا جيَّدَاً وأَزالَتِ الشُّحَّارَ عنْ وجهِهَا وَيديْهَا، ثُمَّ فَتحَتْ قِشْرَةَ ثَمَرَةِ الجَوْزِ ، وَسحَبَتْ مِنْهَا الثَّوبَ الذَّهَبِيَّ، و ارتدَتْهُ ، وَ نَشَرَتْ شَعْرَهَا الذَّهَبِيَّ علَى كتِفَيْهَا،وانْطَلَقَتْ إِلى قاعَةِ الاحتِفَالِ دونَ أنْ يعرِفَهَا أَحَدٌ.

    أُعْجِبَ الملكُ الشَّابُّ بِها كثيراً، لأَنَّهَا كانتْ رائعةَ الجمالِِ، فرقَصَ معَهَا!
    بعدَ انتِهاءِ الرَّقصِ تسلَّلَتْ راجِعَةً إِلى غُرفتِهَا الصَّغيرةِ ، و خَلَعَتْ ثَوْبَهَا الذَّهَبِيَّ ، و ارتَدَتْ بدلاً مِنْهُ مِعطَفَ الفراءِ، وسَوَّدَتْ يَدَيْهَا وَ وَجْهَهَا بِالشَّحَّارِ، وَبدَأَتْ تُزِيْلُ الرَّمادَ عَنِ النَّارِ، كَمَا أَمَرَهَا كبيرُ الطبَّاخِين و الطُّهاةِ.
    أَرادَ كبيرُ الطبَّاخِينَ الفُرْجَةَ أَيضَاً فأَمَرَهَا بِتَسْخِينِ حِساءِ الملِكِ وحذَّرَها بِشِدَّةٍ قائِلاً: "سَخِّنِي حِسَاءَ الملِكِ جَيِّدَاً وَ حذَارِ أَنْ تَسْقٌطَ فيْهِ شَعْرَةٌ واحِدَةٌ، وَ إِلاَّ وَقَعْتِ في ورطَةٍ كبيرَةٍ! "
    و هكذا سَخَّنَتِ الفَتَاةُ حِسَاءَ الملِكِ، وَنزَعَتْ خاتَمَهَا الذَّهَبَيَّ ثُمَّ وضَعَتْهُ فِيْ قَعْرِ صَحْنِ الحِسَاءِ.
    احتَسَى الملِكُ الحِساءَ فَأُعْجِبَ بِهِ ، لأَنَّهُ لَمْ يكُنْ قَدْ تذَوَّقَ مِنْ قَبْلُ حِساءًا ألذَّ مِنْهُ، فأَنْهَى كُلَّ الحِساءِ ، وَ وَجَدَ في قَعْرِ الإِناءِ خاتَمَاً مِنَ الذَّهبِ الخَالِصِ، جميلَ التَّصْمِيمِ ، بديعَ المَنْظَرِ، فازدادَ إِعجابُهُ و عَجَبُهُ و سألَ: مَنْ طَبَخَ الحِساءَ؟
    قال الطَّاهِي: أَنَا يا سيِّدِي!
    قالَ الملِكُ: هذا غيرُ صحِيحٍ، فطَعْمُ هذا الحِساءِ ألَذُّ مِنْ طَعْمِ الحساءِ الذي تقومُ أَنتَ بِطَهْيِهِ !
    عِندئِذٍ اعترَفَ الطاهي و هو نفسه كبيرُ الطبَّاخين، أَنَّ الفتاةَ المسكينةَ هي التي طَهَتْ الحِساءَ.
    فطلبَ الملِكُ الفتاةَ و سأَلَهَا مَنْ تكونُ.
    كانَ جوابُ الفتاةِ أَنَّها فقيرةٌ و يتيمةٌ وَ لا تنفَعُ لِشَيءٍ في الطَّبخِ.
    ثُمَّ سَأَلَهَا إِنْ كانَتْ تعلمُ شَيْئَاً عَنْ وجودِ الخَاتَمِ الذَّهَبِيِّ في صحنِ الحِساءِ، فَهَزَّتْ كَتِفَيْهَا و لَمْ تُجِبْ.
    بعدَ عِدَّةِ أَسابِيْعٍ، أُقِيمَتْ في القَصْرِ حَفْلَةٌ ثانِيةٌ، فطلبَتِ الفتاةُ ثانيةً من الطَّاهِي، أَنْ تَذْهَبِ للفُرْجَةِ على الحَفْلِ، فقالَ لَهَا:
    - حَسَنَاً ، اذهَبِي لِنِصْفِ ساعةٍ فَقَطَ، ثُمَّ عُودي بعدَ ذلِكَ لطهْيِ حِساءَ الملِكِ ، فهو يُحِبُّ الحِساءَ الذي تَطهينَ.
    و هكذا رَكَضَتْ الفتاةُ إِلى غُرفتِها الصَّغيرةِ ، و غسلَتْ وجهَهَا ويديهَا جيِّداً ، ثُمَّ فتَحَتْ قِشْرَةَ ثَمَرَةِ الجَوزِ، وَسَحَبَتْ مِنْهَا الثَّوبَ الفِضيَّ و ارتَدَتْهُ.
    عِنْدَمَا رَآهَا الملِكُ ثَانِيَةً سُرَّ بِهَا كَثِيرَاً، وَ رَقَصَ معَهَا كَثِيرَاً حتَّى انتَهَى وقتُ الرَّقْصِ. عندَئِذٍ تسلَّلَتْ إِلى غُرفتِهَا الصَّغيرةِ، و خَلَعَتْ الفُسْتانَ الفِضيَّ وَارْتَدَتْ بدَلاً مِنْهُ مِعْطَفَ الفِراءِ المؤَلَّفَ منْ أَلفِ قِطعَةٍ مُختَلِفةٍ منْ فِراءِ حيواناتٍ الغابةِ، ثُمَّ طَلَتْ وجهَهَا و يدَيْهَا بِهُبَابِ الفحمِ كالعادةِ، وَ خرجَتْ إِلى المطبخِ فَأَعدَّتْ الحِساءَ للملِكِ ، وَ وضعَتْ في أَسفَلِ إِناءِ الحِساءِ أَقراطَهَا الذَّهبِيَّةَ.
    لمَّا وجدَ الملِكُ أَقراطاً ذهبيَّةً في قعرِ إِناءِ الحساءِ، أَرسلَ يطلبُهَا وسأَلَهَا إِنْ كانَتْ تعلمُ شيئاً عن الذَّهبِ في حِسائِهِ، فأَجابَتْهُ كالسَّابقِ أّنَّهَا فتاةٌ فقيرةٌ يتيمةٌ و لا تنفعُ لشيءٍ في الطَّبْخِ و لا تعلمُ شيئاً عنْ أَقراطِ الذَّهبِ.
    بعدَ ذلكَ بِوقتٍ قصيرٍ أَمرَ الملِكُ بإِقامةِ سهرةٍ في قَصرِهِ، فاسْتعدَّتْ الفتاةُ ، ونظَّفَتْ نفْسَهَا جيِّداً وَ فتحَتْ قِشْرَةَ الجوزِ ، وَ سحبَتْ مِنْهَا الفستانَ البرَّاقَ كنُجومِ السَّماءِ، وَ ارتَدَتْهُ، مِمَّا أَثارَ إِعجابَ الملِكِ ، وَ جعلَهُ في غايةِ السَّعادَةِ، فَأَمسَكَ يدَهَا وَ ضغطَ علَيْهَا بقُوَّةٍ و هوَ يقودُهَا للرَّقْصِ.
    و عندَمَا لاحَظَتْ أَنَّ أَحَدَاً لا ينْتَبِهُ إِلَيْهَا وضعَتْ خَاتَمَاً ذهبِيَّاً في إِصبَعِهَا.
    هذهِ المرَّةُ تأَخَّرَتْ بالعودةِ إِلى غرفتِها، وكانَ الوقتُ ضيِّقَاً جِداً لِنَزعِ فستانِها الرَّائِعِ الجمالِ و ارتداءِ معطفَ الفراءِ، فاضطَرَّتْ لارتداءِ معطفِهَا فوقَ الفستانِ المُشِعِّ كنجومِ السَّماءِ، و لَمْ تدهنْ أيضاً كاملَ وجهِهَا و يديْهَا بِهُبَابِ الفَحْمِ( الشُّحارِ) فبقيَ أحدُ أصابِعِهَا أَبْيَضَاً كالثَّلْجِ ، و بقيَ فيهِ الخاتمُ الذَّهبِيُّ الذي نسيَتْ أِنْ تخْلَعَهُ، وَ أَسرعَتْ لإِعدادِ طبقِ الحساءِ كالعادةِ، و هذه المرَّةُ وضعَتْ عِقدَها الذَّهبِيَّ في قعرِ طبقِ الحساءِ.
    عندَما انتَهى الملكُ مِنْ تناوُلِ الحساءِ
    وَ وجدَ العِقْدَ في أسفلِ الإِناءِ ،أرسلَ يطلبُ الفتاةَ فحضرَتْ أمامَهُ ، و لاحظَ بِسُرعةٍ إِصْبَعَهَا الأَبْيَضَ و الخاتمَ الذَّهبيَّ.
    وضعَ الملِكُ يدَها بيدِهِ و حاولَ نزعَ الخاتمَ مِنْ إِصبعِهَا فانزاحَ قليلاً مِعطفُ الفِراءِ عن فستانِها المشعِّ الذي ملأَ المكانَ ضياءً و نوراً كالنجومِ. فخلعَ الملكُ عنها معطفَ الفِراءِ ،و لاحظَ كَمْ هي جميلةً وجذَّابَةً بشَعرِها الذَّهبِيِّ ، و ثوبِهَا البرَّاقِ، فوقعَ بحبِّها في الحالِ، عندئذٍ غسَلَتْ وجهَهَا ويَديْهَا ، فبدَتْ أكثرَ جمالاً مِمَّا كانتْ عليهِ منْ قبل.
    عندَما رآهَا الجميعُ قالوا أَنَّهَا أميرةٌ حقيقيةٌ ، فحكَتْ قِصَّتَها بالتفصيلِ للملِكِ المُعجَبِ بِهَا .
    بعدَ بضعةِ أيَّامٍ أَقامَ الملكُ احتفالاً كبيراً بمناسبةِ زواجِهِ بِها وعاشَا حياةً رغيدةً سعيدةً مليئةً بالرَّغَدِ و الحُبِّ.
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    975

    Talking

    إن شاء الله يضل هالمنتدى لحد ما يجيني ولاد.. منشان احكيلن قصص ببلاش...

    ولك لوووووووووووووووووووووول يا أخت نادين...
    أساس الفشل أن تنجح به

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فشلان مشاهدة المشاركة
    إن شاء الله يضل هالمنتدى لحد ما يجيني ولاد.. منشان احكيلن قصص ببلاش...

    ولك لوووووووووووووووووووووول يا أخت نادين...
    حيرتني معك هلأ قلت ما بدك تتزوج كيف بدك تجيب ولاد

    لازم تسمي حالك المحير المحتار مافي حدا مشارك بهالاسم لووووووووول
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    975

    Talking

    ولك شو عم تلاحقيني إنت على الكلمة... هلأ أنا قلت ما بدي اتزوج.. بس لما برجع بشوف الفشلانة.. فيني قول ما بدي اتزوج... شو مفكرين حالكن حبة وحبتين إنتو النسوان؟؟؟ آ والله محمصة بكاملها إنتو.... عندكن مغناطيس بيلقط عن بعد عشرطعشر ألف كيلو...

    الله يعينا عليكن يا رب...
    أساس الفشل أن تنجح به

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان بندر محبوبا في مدرسته عند الجميع من أساتذة وزملاء ، فإذا استمعت الى الحوار بين الأساتذة عن الأذكياء كان بندر ممن ينال قسطا كبيرا من الثناء والمدح
    سئل بندر عن سر تفوقه فأجاب :أعيش في منزل يسوده الهدوء والاطمئنان بعيدا عن المشاكل فكل يحترم الاخر ،وطالما هو كذلك فهو يحترم نفسه وأجد دائما والدي يجعل لي وقتا ليسألني ويناقشني عن حياتي الدراسية ويطلع على واجباتي فيجد ما يسره فهو لايبخل بوقته من أجل أبنائه فتعودنا أن نصحو مبكرين بعد ليلة ننام فيها مبكرين وأهم شئ في برنامجنا الصباحي أن ننظف أسناننا حتى إذا أقتربنا من أي شخص لا نزعجه ببقايا تكون في الاسنان ، ثم الوضوء للصلاة. بعد أن نغسل وجوهنا بالماء والصابون ونتناول أنا وأخوتي وجبة إفطار تساعدنا على يوم دراسي ثم نعود لتنظيف أسناننا مرة أخرى ونذهب الى مدارسنا وإن كان الجميع مقصرين في تحسين خطوطهم فإني أحمد الله على خطي الذي تشهد عليه كل واجباتي..ولا أبخل على نفسي بالراحة ولكن في حدود الوقت المعقول ، فأفعل كل ما يحلو لي من التسلية البريئة
    أحضر الى مدرستي وأنا رافع الرأس واضعا أمامي أماني المستقبل منصتا لمدرسي مستوعبا لكل كلمة، وأناقش وأسأل وأكون بذلك راضيا عن نفسي كل الرضا
    وإذا حان الوقت المناسب للمذاكرة فيجدني خلف المنضدة المعدة للمذاكرة ، أرتب مذاكرتي من مادة الى أخرى حتى أجد نفسي وقد استوعبت كل المواد ، كم أكون مسرورا بما فعلته في يوم ملئ بالعمل والأمل
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    975

    Talking

    من وين بتعرفي عني كل هالشغلات؟؟؟؟ بس أنا اسمي فشلان مش بندر...

    ولك دوووووووووووووووووووووووووع.... من وين جايبة هادى أه؟؟؟؟
    أساس الفشل أن تنجح به

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فشلان مشاهدة المشاركة
    من وين بتعرفي عني كل هالشغلات؟؟؟؟ بس أنا اسمي فشلان مش بندر...

    ولك دوووووووووووووووووووووووووع.... من وين جايبة هادى أه؟؟؟؟
    اها شفت قربنا نكتشف من هوا فشلان
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Jan 2007
    المشاركات
    83

    افتراضي

    هنيييييييئاً يا نادين للموقع وأولادك

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    شكرا لك اخت نور على المشاركة
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    معروف فلاح يعيش في مزرعته الصغيرة على شاطئ أحدى البحيرات ، تعود على عمله الذي أخذه عن والده ، وهو حرث الأرض وزراعتها وريها..اعتبر هذا العمل خدمة لوطنه الغالي الذي أعطاه الكثير ول يبخل عليه بأي شئ ..وكان معروف يتسلى بمظهر البحيرة التي تعيش فيها مجموعة طيور الأوز والبط ، وكانت أشكالها الجميلة وسباحتها في البحيرة مما تعود أن يراه يوميا وهذه هي تسليته الوحيدة...إنه لا يعرف الكسل ، فهو منذ الفجر يستيقظ نشيطا متفائلا..ولما كان عمله بدنيا فقد ازدادت صحته قوة وصلابة ، وأصبح يضاعف العمل في مزرعته ، فعرف أن زيادة الانتاج دائما تأتي بالعزيمة والايمان.وذات يوم وهو في مزرعته أثناء قيامه بشق الأرض ، إذا بصوت خافت يأتي من خلفه ، فاستدار فإذا هو ثعبان ضخم، فتخوف الفلاح وأراد الفرار ، ولكن الثعبان قال له: قف أيها الفلاح وأسمع حديثي لعلك تشفق عليّ ، وإن لم تقتنع فلا عليك ، أتركني ومصيري
    فصعد الفلاح على ربوة وبسرعة حتى جعل البحيرة بينه وبين الثعبان من بعيد ، فقال الثعبان :إنني لم أضر أحدا في هذه القرية وقد عشت فترة طويلة فيها ، وانظر ستجد أبنائي خلف الشجرة ينتظرون قدومي بفارغ الصبر وانظر الى الراعي يريد أن يقضي عليّ بفأسه فخبئني حتى يذهب وسوف لا تندم على عملك ، فنزل معروف وخبأه في مكان لا يراه ذلك الراعي الذي ظل يبحث عنه هنا وهناك وغاب الراعي عن الأنظار وكأنه لم يجد فائدة من البحث عن الثعبان حيث اختفى، ولما أحس الثعبان بالأمان أخذ يلتف على معروف الذي أمنه على نفسه ، وجد معروف نفسه في ورطة كبيرة ، فالثعبان السام يلتف حول عنقه ، وحتى الصراخ لو فكر فيه لن يفيده فالمكان لا يوجد فيه أحد وخاصة أن خيوط الليل بدأت تظهر في السماء ، وأهالي القرية البعيدون عن كوخه ومزرعته تعودوا أن يناموا مبكرين ، ومن يغيثه من هذا الثعبان الذي يضغط على رقبته ويقضي عليه؟ وهل في الامكان لشخص ما أن يقترب؟المنظر رهيب ، وهل يصدق أحد أن أنسانا ما يسمع كلام الثعبان مثل معروف ويأمنه ويقربه اليه ؟ وهنا قال معروف للثعبان: أمهلني حتى أصلي - وفعلا توضأ وصلى ركعتين وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يخلصه من هذا الثعبان المخيف الرهيب بضخامته وسمومه القاتلة وبينما هو كذلك إذا بشجرة قد نبتت وارتفعت أغصانها وصارت لها فروع ، فتدلى غصن تحب أكله الثعابين وتبحث عنه ، فاقترب الغصن الى فم الثعبان ، فأخذ الثعبان يلتهم الغصن وماهي الا دقائق حتى إنهار الثعبان وسقط وكانت الشجرة عبارة عن سم ، فقتل ذلك الثعبان الذي لم يوف بعهده مع من حماه ، وفجأة اختفت الشجرة المسمومة وعلم معروف أن الله قريب من الانسان ، وانه لابد أن يعمل المعروف مع كل الناس ، ومع من يطلب منه ذلك
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان الفتى تامر ينظر الى بعض الأولاد ، وأحدهم يمسك بقطة من رقبتها ليخنقها ، المسكينة تصيح وتستغيث. وكان الطفل يحكم قبضته حول رقبة القطة ، ويزيد من ضغطه عليها وأحيانا يحملها من ذيلها ويجعلها تتأرجح بين يديه ، والقطة تستنجد ، وكان هذا الطفل يقهقه بأعلى صوته مسرورا بما يفعله . وكان تامر هادئا لا يريد أن يفعل شيئا مضرا بزملائه.فكان اسلوب تعامله معهم أدبيا ، لأنه يرى أن المشاجرة لا تجدى نفعا ، وتقدم تامر الى الطفل..وطلب منه أن يكف عن أذى الحيوان ، وأفهمه أن لهذه القطة فوائد في المنزل ، وفي أي مكان وجدت فيه..فهي عدوة للفئران والحشرات الضارة ، فهي تقضي عليهم ولا تجعل لهم أثرا ، وأن من الواجب أن يترك الانسان الحيوانات وشأنها.لأنها أليفة ، وبالتالي لاتضر..ثم قال له:ماذا تستفيد من تعذيبها بهذا الشكل؟ وهي عاجزة عن المقاومة، وبحاجة الى رعاية ،وكانت القطة المسكينة تنظر الى تامر لعله يخلصها من اليد القابضة عليها ، وهنا رق الطفل وشكر تامرا على نصيحته الجيدة ، وأعترف بأن هذا فعلا حيوان لا يضر ، وقال لتامر: إنه لا يدري أن عمله هذا ردئ ، حيث أنه لم يسمع من أحد في البيت أو من أصدقائه ما سمعه من تامر ، وعاد تامر الى منزله ،وذات يوم ، قبل أن يأوي الى النوم..تذكر أنه يريد أن يشرب من الثلاجة الموجودة بالمطبخ ، فاتجه اليها ، وبعد أن شرب رأى نورا خافتا من جهة الباب الخارجي للمنزل ، فتذكر أن والده سيتأخر وأن عليه أن يغلق الباب ، وتقدم تامر ليغلق الباب وفجأة !!لاحظ شيئا ما أمام عينه يا الله..إنه ثعبان..وكان طويلا..فصرخ تامر فزعا.واخذ تامر يستغيث ويحاول أن يجد له مخرجا من هذا المأزق ، ولكن الطريق أمامه مسدودة ، فهو لايدري ماذا يفعل..واضطربت أنفاسه، وكاد يغمى عليه..وبينما هو في فزعه!!نظر حوله فإذا بالقط يمسك بذلك الثعبان بين أنيابه ، وقد قضى عليه ، وقد عرف تامر أن هذا هو القط الذي أنقذه ذات يوم من ذلك الطفل ، وقد أمتلأ جسمه ، وأصبح في صحة جيدة ، ونظر القط الى تامر..وكأنه يقول له:وانني أرد لك الجميل ياتامر :وعاد تامر بعد أن أغلق الباب الى غرفته يفكر..كيف أن فعل الخير يدخر لصاحبه..حتى يوّفى له..فتعلم درسا طيبا..وقرر أن تكون حياته سلسلة من الاعمال الخيرية.
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Apr 2007
    المشاركات
    293

    افتراضي

    طلب موسى عليه السلام يوما من الباري تعالي أثناء مناجاته أن يريه جلسيه بالجنة في هذه الدنيا
    فأتاه جبرائيل على الحال وقال: يا موسى جليسك هو القصاب الفلاني . الساكن في المحلة الفلانيه

    ذهب موسى عليه السلام إلى دكان القصاب فرآه شابا يشبه الحارس الليلي وهو مشغولا ببيع اللحم
    بقى موسى عليه السلام مراقبا لأعماله من قريب ليرى عمله لعله يشخص ما يفعله ذلك القصاب لكنه لم يشاهد شئ غريب
    لما جن الليل اخذ القصاب مقدار من اللحم وذهب إلى منزله . ذهب موسى عليه السلام خلفه وطلب موسى عليه السلام ضيافته الليلة بدون أن يعرّف بنفسه .. فأستقبله بصدر رحب وأدخله البيت بأدب كامل وبقى موسى يراقبه فرأى عليه السلام أن هذا الشاب قام بتهيئة الطعام وأنزل زنبيلا كان معلقا في السقف وأخرج منه عجوز كهله غسلها وأبدل ملابسها وأطعمها بيديه وبعد أن أكمل إطعامها أعادها إلى مكانها الأول . فشاهد موسى أن الأم تلفظ كلمات غير مفهومه
    ثم أدى الشاب أصول الضيافة وحضر الطعام وبدأوا بتناول الطعام سويه
    سئل موسى عليه السلام من هذه العجوز ؟
    أجاب : هي أمي .. أنا أقوم بخدمتها ، فسأل موسى عليه السلام : وماذا قالت أمك بلغتها ؟؟
    أجاب : كل وقت أخدمها تقول :غفر الله لك وجعلك جليس موسى يوم القيامة في قبته ودرجته

    فقال عليه السلام : يا شاب أبشرك أن الله تعالى قد استجاب دعوة أمك رجوته أن يريني جليسي في الجنه فكنت أنت المعرف وراقبت أعمالك ولم أرى منك سوى تجليلك لأمك واحترامك وإحسانك إليها
    وهذا جزاء الإحسان واحترام الوالدين
    .


  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    مشكور اخ فيصل على المشاركة
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    الأَمِيْرَةُذَاتُ عَبَاءَةِ القَشِّ

    في يومٍ مِنَ الأَيَّامِ ، كانَ هنَاكَ سيِّدٌ غَنِيٌّ جِدَّاً ، و كانَ لديهِ ثلاثُ بناتٍ.
    في أَحدِ الأَيَّامِ ، أرادَ معرِفَةَ مَنْ مِنْهُنَّ تُحبُّهُ أَكثر!
    سألَ البنتَ الأُولى :
    " كمْ تُحبِّيني يا عزيزتي؟ "
    أجابَتْ:
    " أُحبُّكَ قَدْرَ محبَّتي لِنفسِي. "
    قال:
    " هذا جيِّدٌ. "
    و سألَ البِنْتَ الثَّانيةَ:
    " كمْ تُحبِّيني يا عزيزتي؟ "
    أجابت :
    " أُحبُّك أكثرَ من أَيِّ شخصٍ آخرَ في العالمِ."
    قال:
    " هذا جيِّدٌ. "
    و سألَ البنتَ الثَّالثةَ:
    " كمْ تُحبِّيني يا عزيزتي؟ "
    أجابت:
    " أُحبُّكَ قدْرَ ما يُحِبُّ اللَّحمُ المطهوُّ المِلحَ."

    غضِبَ الأَبُ كثيراً ، و قالَ لابنَتِهِ الثَّالثةِ: "أَنتِ لا تُحبِّيني على الإطلاق! لذلك لنْ تعيشِيَ معي في هذا البيتِ بعدَ الآنَ، هيَّا اخرُجي من بيتِي و لا تعودي إليهِ ثانيةً. "

    و هكذا طُرِدَتِ البنتُ الْمَسْكينةُ منَ البيتِ ، و خرجتْ بعيداً ، تَمشي بين الحقولِ ، تمشي ، و تمشي ، بين الحقول، حتَّى وصلَتْ إِلى ضفَّةِ نهرٍ جارٍ .

    هناكَ جمعَتْ بعضَ القَشِّ ، و صنعَتْ مِنْهُ عَباْءَةً كبيرةً ذاتَ قُبَّعَةٍ ، و هكذا صارَ بِإِمكانِها تغطيةَ جسمِها منَ الرَّأْسِ حتى القدمَينِ بالقَشِّ الذي حاكَتْهُ بيديْها و غطَّتْ بِهِ ثوبَها الجميلَ ، حيثُ لا يمكنُ لأَحدٍ أَنْ يراهُ أَبداً.
    ارتدَتِ الفتاة ُ النشيطةُ العباءَةَ ذاتَ القُبَّعةِ و تابعَتْ سيرَهَا طويلاً ، حتَّى وصلَتْ إِلى قَصرٍ كبيرٍ، تحيطُ بِهِ الحدائقُ الْخَضراءُ ذاتُ الأَزهارِ الجميلةِ الملوَّنَةِ.
    دقًّتْ على البابِ و سَأَلَتْ :
    " هلْ تُريدُون خادمةً؟ هل تحتاجُون خادمةً؟"
    أَجابُوا :
    " لا ، لا نحتاجُ خادمةً ."
    فقالَتْ متوسِّلَةً:
    " ليس لديَّ أَيُّ مكانٍ آخَرَ أَذهبُ إِلَيْهِ ،دعُوني أَعيشُ معَكُمْ أرجوكم ، أستطيعُ القيامَ بِأَيِّ عملٍ تريدونَ، و لا أُريدُ لقاءَ عملِي مالاً."
    قالوا:
    " حسناً ، يمكِنُكِ البقاءَ لدَينَا مقابلَ تنظِيفِ الأَواني والصحونَ."

    و هكذا بقِيَتِ الفتاةُ عندَهُم تُنظِّفُ الأواني والصحونَ، و تُنَفِّذُ الأوامرَ للقيامِ بكافَّةِ الأَعمالِ الصَّعبَةِ الَّتي يطلبونَها منها .
    و لأَنَّها لم تشَأْ إِخبارَهُم من هي و ما اسمُها ، أَطلَقُوْا عليها اسمَ " ذاتُ عَباءَةِ القَشِّ".

    في أَحدِ الأَيَّامِ أُقِيمَ حفلٌ في قصرٍ آخرَ يبعَدُ قليلاً عنْهُم ، و سُمِحَ للخدمِ جميعاً ، و معَهُم ذاتُ عَباءَةِ القَشِّ بالذَّهابِ للفُرجَةِ على السَّيِّداتِ الغَنِيَّاتِ اللاتي يأتين بأَحلَى الفساتِينِ و أَجملِ الثِّيابِ يتباهَيْنَ بِجمالِهِنَّ وبملابِسِهِنَّ ،و على السَّادةِ الأَغنياْءِ الذين يأتون عادةً بكاملِ أناقَتِهم و يتحدثُوْنَ عَنْ ثَرْواتِهِم وأَعمالِهِمْ .
    ادَّعَتْ ذاتُ عَباْءَةِ القَشِّ أَنَّهَا تَعِبَةٌ، و لا تستطيعُ الذَّهابَ إلى الحفلةِ ، فبقِيَتْ في البيتِ. و بعدما ذهبَ الجميعُ و أَصبحَتْ وحيدةً ، خلعَتْ عَباءَةَ القَشِّ ، و نظَّفَتْ نفسَهَا بشكلٍ جيَّدٍ ، ثم انطلقَتْ إِلى الحفلِةِ ، للرَّقصِ بفُستانِها الجميلِ ، الذي كانَ أَروعَ فُستانٍ في السَّهرَةِ.
    رَآهَا ابنُ سيِّدِهَا و هو شابٌ مهذبٌ و وسيمٌ ،فوقعَ في حُبِّها منذُ أَوَّلِ لحظةٍ، ولم يرقصْ معَ فتاةٍ سواها في السَّهرةِ.

    و قُبَيْلَ انتِهاْءِ الرَّقصِ بلحظاتٍ غادرَتِ المكانَ بِسُرعَةٍ ، وَ عادَتْ إِلى القصرِ ، وعندَما وصلَ الخدمُ ادَّعَتْ أَنَّها نائمةٌ.
    في الصَّباحِ التَّالي ،قالت لها الخادماتُ:
    " كان عليكِ مرافقَتَنَا ليلةَ الأمسِ إلى حفلةِ الرَّقْصِ ، يا ذاتَ عَباءَةِ القَّشِّ."
    فسَأَلَتْهُم:
    " لماذا توَجَّبَ عَلَيَّ الذَّهابُ معَكُم؟"
    فقالُوْا:
    " لماذا؟؟ لأَنَّ أَجملَ فتاةٍ في العالمِ كانَتْ هناك ، و لمْ يرفَعِ ابنُ سيِّدِنا عَينَيْهِ عنْها ، بلْ لَمْ يُراقِصْ فتاةً سِوَاهَا. "

    قالت :
    " إذن يَجبُ أَنْ أَراهَا ذاتَ يومٍ! "
    قالُوْا:
    " سَتُقَامُ حفلةٌ راقصةٌ أُخرى اليومَ أيضاً ، وقد تَأْتي إِلَيها ، فتَعالَي معنا لمشاهدتها ."

    عندما جاءَ المساءُ ادَّعَتْ أَيضاً أَنَّها تَعِبَةٌ ولا تستطيعُ مرافَقَتَهُنَّ. و لكنْ بعد أَنْ أَصبحَتْ لِوحدِهَا في البيتِ ، خلعَتْ عَباْءَتَها ، ونظَّفَتْ نفسَهَا جيِّداً ، و ارتدَتْ فُستانَهَا الجميلَ ، ثُمَّ انطلقَتْ إِلى الحفلةِ الرَّاقِصَةِ.
    مرَّة أُخرى رَقَصَ معها ابنُ السَّيِّدِ و لَمْ يرفعْ عَينَيْهِ عنْهَا، و قُبَيْلَ انْتِهاءِ الرَّقص تسلَّلتْ خارجاً ، و عادَتْ إلى القصرِ بِسُرعةٍ .
    عادَت الخادماتُ و وَجَدْنَهَا نائمة!
    كانت تدَّعي أَنَّها نائمةٌ بالطَّبْعِ.
    في صباحِ اليومِ التَّالي ، قالت لها الخادماتُ ثانيةً:
    " كانَ عليكِ مرافقَتَنَا إلى حفلةِ الرَّقصِ يا ذاتَ عَباْءَةِ القَشِّ كي تُشاهدِي السَّيِّدةَ الجميلةَ ، لقد كانَتْ هناكَ اليومَ أيضاً، يا لها مِنْ فتاةٍ رائعةِ الجمالِ! لذلك لَمْ يرفعِ ابنُ سيِّدِنا عينيه عنْها لحظةً واحدةً ، و لَمْ يُراقِصْ سوَاهَا."

    قالَتْ ذاتُ عَباءَةِ القَشِّ:
    " كانَ عليَّ الذَّهابُ حقاً ، و لكنْ ما العمل؟"

    قالتِ الخادماتُ :
    " حسناً ، ستُقامُ عند هذا المساءِ حفلةٌ أُخرى أَيضاً ، وقد تحضرُها تلكَ السَّيِّدَةُ الجميلةُ. "

    عندَ المساءِ ، قالَتْ ذاتُ عَباْءَةِ القَشِّ أنَّها تَعِبَةٌ كالعادةِ ، و بقِيَتْ في البيتِ، و عندما ذهبَ الجميعُ، خَلَعَتْ عَباْءَةَ القَشِّ ، ونظَّفَتْ نفسَها جيِّداً ثُمَّ ارتَدَتْ فُستانَها الجميلَ، و انطلقَتْ إِلى حفلةِ الرَّقصِ.

    كان ابْنُ السَّيِّدِ صاحبِ القصرِ الذي تعيشُ فيه سعيداً جِدَّاً لرُؤْيَتِهَا ،فلم يرقصْ مع فتاةٍ سِواها، و لمْ يرفعْ نظرَهُ عنْهَا لحظةً واحدةً.

    سَأَلَهَا مَنْ تكونُ و مِنْ أَينَ هي ، فلمْ تُجِبْ، أَعطَاهَا خاتَمَهُ الخاصَّ ،و قال لها:
    " إِذا لَمْ أَرَكِ مرَّةً أُخرى سَأَموتُ منَ القهرِ بالتأكيد! "

    قبيلَ انْتهاءِ الرَّقصِ تسلَّلتْ ذاتُ عباْءَةِ القَشِّ دون أَنْ يرَاْهَا أَحدٌ ، عاْئِدةً إلى القصرِ وارتدَتْ عَباءَةَ القَشِّ ، و عندَما وصلَتِ الخادماتُ ادَّعَتْ أَنَّها نائمةٌ.

    في صباحِ اليومِ التَّالي ، قالَتْ لها الخادماتُ: " لَمْ تذْهَبِي ليلةَ الأمسِ إلى حفلةِ الرَّقصِ يا ذاتَ عباءَةِ القَشِّ ،و لنْ يُمكِنَكِ بعدَ الآن رُؤْيةَ السَّيِّدةِ الجميلةِ ، لأَنَّه لَنْ تُقامَ حفلةٌ بعدَ الآن. "

    قالت :
    " في الحقيقةِ كانَ عليَّ الذهابُ لرُؤْيتِها."

    قامَ السَّيِّدُ الإبنُ بالتَّفتيشِ عَنْها في كلِّ مكانٍ ، لكنَّه لمْ يَعثُرْ علَيْهَا. سألَ جميعَ النَّاسِ الَّذينَ قابَلَهُم عنها دونَ فائِدةٍ ، فمرِضَ مرضاً شديداً ، و ساءَتْ حالتُهُ الصِّحِّيَّةُ يوماً بعدَ يومٍ ، حتَّى سقَطَ طريحَ الفِراشِ مِنْ شِدَّةِ الحُمَّى. فطلَبُوْا مِنَ الطَّاهِيِ إِعدادَ طبَقٍ مِنَ الكِشْكِ له.

    كانَ الطَّاهي يقولُ و هُو في طريقِهِ إلى المطبخِ:
    "إِنَّهُ يموتُ بسببِ حُبِّه لِتلكَ السَّيِّدَةِ الفاتِنَةِ."

    سَمِعَتْهُ ذاتُ عباءَةِ القَشِّ فسأَلَتْهُ :
    " ماذا ستطْهُوْ؟"

    أَجابَ:
    "سَأَطْهُو بَعضَ الكِشْكِ(1) للسَّيِّدِ الشَّابِّ ، إنَّه سيموتُ بسببِ حُبِّهِ لِتلكَ السَّيِّدَةِ الشَّابَّةِ."
    قالت له:
    " دعْنِي أَفعلُ ذلِكَ بدلاً عنْكَ. "

    وافقَ الطَّاهي ، فَأَعدَّتْ ذَاتُ عَباءةِ القَشِّ الكِشْكَ اللَّذيذَ المطبوخَ على فِراخِ الحمَامِ، وأَخذَتِ اْلخاتَمَ الَّذي وهَبَه لها سابقاً ، ووضعَتْهُ خِلْسةً (2) في طبقِ الكِشْكِ ، ثمَّ أَرسلَتِ اْلطَّعامَ معَ الطَّاهي إِلى غُرفَةِ السَّيِّدِ الشَّابِّ المريضِ.

    أُعجِبَ السَّيِّدُ الشَّابُّ - رغمَ مرضِهِ- بالطَّعامِ اللَّذيذِ، فتناولَهُ حتَّى آخرِهِ، و حينَ انتَهَى مِنْهُ لاحظَ الخاتمَ ، فتعجَّبَ و استَدْعَى (3)الطَّاهي بِسُرعةٍ، و فورَ وصولِهِ، بادرَهُ (4) بالسؤال:
    " مَنْ أَعَدَّ الطَّعامَ؟"

    ظَنَّ الطَّاهي أَنَّ الطعامَ غيرُ لذيذٍ ، و لم يُعجِبْ سيِّدَهُ ،و خشِيَ العُقوبَةَ ،لأَنَّهُ سمَحَ لِذاتِ عَباءَةِ القَشِّ بِإِعْدَادِهِ، فارتَعَشَتْ يداهُ ، و رجلاهُ و اصطكَّتْ أَسنانُه من الخوفِ ،و هو يقولُ مُتَلَعْثِمَاً بِصوتٍ مُرْتَجِفٍ:
    " أَ..أَ..أَنَا يا..يا.. سيِّدِي! "
    نَظَرَ السَّيِّدُ بِغَضَبٍ و قال:
    " قُلْ بِصَرَاحَةٍ ، مَنْ أَعَدَ طبَقَ الطَّعامِ ولَنْ أُعَاقِبَكَ. "

    قالَ الطَّاهي و قَدْ شَعَرَ بِشَيْءٍ مِنَ الطُّمَأْنِيْنَةِ:
    " حسناً ياسيِّدي.. إِنَّها ذاتُ عَباءَةِ القَشِّ."

    قالَ السَّيِّدُ الشَّابُّ:
    " حسناً ، أَحْضِرْهَا إِلى هُنَا فوراً."

    و جاءَتْ ذاتُ عَباءَةِ القَشِّ ، فَسَأَلَها السَّيِّدُ:
    " أَأَنْتِ طَبَخْتِ الكِشْكَ يا ذاتَ عباءَةِ القَشِّ؟ "
    أَجابَت:
    " نعم."

    سأَلَها ثانيةً:
    "مِنْ أَينَ حصلْتِ على هذا الخاتمِ؟ "

    أَجابَتْ:
    "مِنَ الرَّجُلِ الذي أَعطَانِي إِياهُ."

    سألَ السيِّدُ الشَّابُّ مُستغرِبَاً:
    "إِذنْ مَنْ أَنْتِ؟"

    قالَتْ بِدَلَعٍ:
    " سَأُرِيْكَ مَنْ أَنا."
    و خلعَتْ عَباءَةَ القَشِّ ، و ظهرَتْ بِفُستانِها الجميلِ، و عرِفَ لِلتَّوِّ أَنَّها السَّيِّدَةُ الشَّابَّةُ الَّتي تعلَّق قلْبُهُ بِها.

    و تعافَى السَّيِّدُ الشَّابُّ منْ مرضِهِ شيئَاً فشيئاً، و قرَّرَ إِقامةَ حفلِ زفافٍ عظيمٍ خلالَ فترةٍ قصيرةٍ ، و دَعَا إِلَيْها العديدَ منَ النَّاسِ، منَ الْمُدنِ والقُرى القَريبَةِ و البعيدَةِ ،لِحُضورِ العُرسِ ، و كانَ والِدُ ذاتِ عَباءَةِ القَشِّ مِنَ المدعُوِّينَ أيضاً.

    قبلَ إِعدادِ مائدةِ الطَّعامِ الكبيرةِ ، و بعدَ أنْ عرِفَتْ ذاتُ عباءَةِ القَشِّ بِوُجودِ والِدِها ، ذهبَتْ إِلى كبيرِ الطُّهاةِ و قالَتْ له:
    " أَرجوكَ ، لا تضعْ مِلْحَاُ على أَيِّ طبقِ لحمٍ في الطَّعامِ."
    أَجابَ كبيرُ الطُّهاةِ بِدَهشَةٍ:
    " لكِنْ في هذِهِ الحالِ(5) لَنْ يكونَ لِلطَّعامِ أَيُّ مذاقٍ !"
    قالَتْ :
    " لا يَهُمُّ ، فقط افعَلْ ما طلَبْتُهُ منْكَ."

    قالَ:
    " كما تَشَائِينَ يا سيدتي!"


    ]
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    و هكذا بدأَ الضُّيوفُ بِتناولِ الطَّعامِ الخالي مِنَ الملحِ ، فلمْ يَجِدُوا لَهُ طَعْمَاً ، و لا مَذَاقَاً مقبولاً.
    جرَّبَ والدُ ذاتِ عباءةِ القَشِّ طبَقَاً مَنَ اللَّحمِ ، فلَمْ يجدْ له طعْمَاً لذيذاً ، و لا مذاقاً مقبولاً، ثُمَّ جَرَّبَ تناوُلَ شيءٍ ما مِنْ طبَقٍ ثانٍ ، ولمْ يجدْ أيضاً له طعماً لذيذاً أَوْ مذاقاً مقبولاً ، و جرَّبَ طبقاً ثالثاً ،و لم يجدْ له أيضاً طعماً لذيذاً أو مذاقاً مقبولاً ، فاكْتَشفَ أَنَّه لم يُضَفْ مِلْحٌ على أَيِّ طبَقٍ منْ أَصنافِ الطَّعامِ الملِيْئَةِ بِاللَّحمِ بِكافَّةِ طُرُقِ طَهْيِهِ. فوضَعَ رَأْسَهُ بين كَفَّيْهِ ، و بدَأَ يبكِي بِصوتٍ عالٍ ، مِمَّا فاجَأَ الجميعَ ، حتَّى أَنَّهُم نَسُوْا مُشكِلَةَ الطَّعامِ غيرِ الْمُمَلَّحِ إطلاقاً،

    أَسرَعَ إِلَيْهِ السَّيِّدُ الشَّابُّ و سَأَلَهُ:
    " ما الأمرُ؟ قلْ لِيْ بِالله عليكَ، أَخفتنا يارجل!"

    قالَ و هوَ يندِبُ(6) كأُمٍّ فقَدَتْ طِفلَهَا: " أَوَّاهُ ، أَوَّاهُ، يا لِتعاسَتِي و شقاْئِي، كان لي ابنةٌ سأَلْتُها يوماً كمْ تُحِبُّني ، فقالت :" أُحِبُّكَ بقدْرِ ما يُحِبُّ اللحمُ المطهْوُّ الْمِلْحَ" فطردْتُها من البيتِ ، لأَنَّني ظنَنْتُ أَنَّها لا تُحبُّني، و الآنَ فقط ، اكتشفْتُ أَنَّها كانَتْ تُحِبُّني أَكثرَ مِنْ أَختيها، انظروا جميعاً، أَلَمْ تَجدُوْا أَنَّ اللَّحمَ لا يُؤْكَلُ و ليس لذيذاً بدونِ مِلْحٍ، آهِ يا ابنتي أَينَ أَنْتِ الآنَ ، رُبَّما تاهَتْ في البراري أوِ الغاباتِ أو أكلَتْها الوحوشُ، آه يا ابنتي أينَ أَنتِ الآنَ!"

    سَمِعَتْ ذاتُ عباءَةِ القّشِّ كلامَ والدِهِا فأَسرعَتْ إِليهِ و هي تَهتِفُ بينَ الحُضُورِ:
    " لا ، لمْ تأْكُلْهَا الوحوشُ ، إِنَّها هُنا يا أَبِي ، إنها أنا."

    و هرَعَتْ إِلى أَبِيها و عانقَتْهُ بِحُبٍّ كبيرٍ ، وضمَّها إِلى صدرِهِ، و باركَ زواجَهَا من السَّيِّدِ الشَّابِّ.
    و هكذا عاشَ الجميعُ بِحُبٍّ و سعادةٍ.
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان سمير يحب أن يصنع المعروف مع كل الناس ، ولايفرق بين الغريب والقريب فــي معاملته الانسانية .. فهو يتمتع بذكاء خارق وفطنة . فعندما يحضر الى منزله تجده رغم عمره الذي لا يتجاوز الحادية عشرة .. يستقبلك ، وكأنه يعرفك منذ مدة طويلة .. فيقول أحلى الكلام ويستقبلك أحسن استقبال وكان الفتى يرى في نفسه أن عليه واجبات كثيرة نحو مجتمعه وأهله ، وعليه أن يقدم كل طيب ومفيد . ولن ينسى ذلك الموقف العظيم الذي جعل الجميع ينظرون اليه نظرة إكبار .. ففي يوم رأى سمير كلبا يلهث .. من التعب بجوار المنزل . فلم يرض أن يتركه .. وقدم له الطعام والشراب وظل سمير يفعل هذا يوميا ، حتى شعر بأن الكلب الصغير قد شفيّ ، وبدأ جسمه يكبر ، وتعود اليه الصحة . ثم تركه الى حال سبيله .. فهو سعيد بما قدمه من خدمة إنسانية لهذا الحيوان الذي لم يؤذ أحدا ولا يستطيع أن يتكلم ويشكو سبب نحوله وضعفه . وكان سمير يربي الدجاج في مزرعة أبيه ويهتم به ويشرف على عنايته وإطعامه وكانت تسلية بريئة له
    .
    وذات يوم إنطلقت الدجاجات بعيدا عن القفص واذا بصوت هائل مرعب يدوي في أنحاء القرية وقد أفزع الناس. حتى أن سميرا نفسه بدأ يتراجع ويجري الى المنزل ليخبر والده . وتجمعت الأسرة أمام النافذة التي تطل على المزرعة .. وشاهدوا ذئبا كبير الحجم ، وهو يحاول أن يمسك بالدجاجات و يجري خلفها ، وهي تفر خائفة مفزعة وفجأة .. ظهر ذلك الكلب الذي كان سمير قد أحسن اليه في يوم من الأيام .. و هجم على الذئب وقامت بينهما معركة حامية .. وهرب الذئب ، وظل الكلب الوفي يلاحقه حتى طرده من القرية وأخذ سمير يتذكر ما فعله مع الكلب الصغير وهاهو اليوم يعود ليرد الجميل لهذا الذي صنع معه الجميل ذات يوم ، وعرف سمير أن من كان قد صنع خيرا فإن ذلك لن يضيع .. ونزل سمير الى مزرعته ، وشكر الكلب على صنيعه بأن قدم له قطعة لحم كبيرة ..جائزة له على ما صنعه ثم نظر الى الدجاجات ، فوجدها فرحانة تلعب مع بعضها وكأنها في حفلة عيد جميلة
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    خرجت الفأرةُ الرماديّةُ من حُجْرِها، ثمّ ركضَتْ نحوَ بَيْتِ المؤونة، ولكنّها لمْ تكدْ تقترب من الباب حتى وجدت الهرَّ " فلفل" نائماً هناك، فتراجعت مذعورةً، ولم تدرِ إلى أين تذهب، فقد شعرت بالجوع..‏

    كانت غرفة المكتبةِ مفتوحةً على مصراعيها فقفزت الفأرة الرماديّة سريعاً، وجدت نفسها بين رفوف الكتبِ والمؤلّفات والمعاجم والقصصِ والمجلاّت..‏

    بدتِ الصفحاتُ لذيذةً هشّةً، والفأرةُ تقرضُ أطرافها.. ضحكتْ وقالتْ لنفسها:‏

    - كم يتعبُ الإنسانُ في تأليفِ الكُتُبِ، وكم يُجهدُ نفسه في سبيل إخراجها ونشرها ! وها أنذا هُنا أَقْرضُها بهدوءٍ..‏

    بدأت الفأرة الرماديّةُ بكتابِ الجغرافية، قَرَضَتْ بعضَ صفحاته، حدّثتْ نفسها:‏

    - الجغرافيةُ ضروريةٌ، علمُ البلدان ومعرفةُ الأوطان، الخرائطُ والمصوّرات، البحارُ والمحيطات.. كلُّها مفيدةٌ.. ها.. ها.. ها..‏

    انتقلتْ إلى ديوان شعر..‏

    - وهذه الأشعارُ، والكلماتُ المختارةُ، والأفكارُ المحلقةُ محطّةٌ للاسْتراحَةِ..‏

    وقَرَضَتْ صفحتين مِنْهُ..‏

    ثمَّ تحوّلتْ إلى قصّةٍ مُلوّنةٍ..‏

    - هي ذي حكايةٌ مُمتعةٌ، ما ألذّها‍‍‍‍ ! لشَّد ما أهوى هذه الرسومَ الجميلةَ.. انظروا إلى هذا الولَدِ الذي يركض وراءَ الأرنبِ، قميصُه الأحمرُ غير ملوّثٍ، وكفّاهُ غيرُ ملطّخَتْين بالحبْر، يبدو أنّه مجتهدٌ في دروسِه، لأنّه لم يتركِ الكتابَ منْ يدهِ، يحبُّ النظافةَ والترتيبَ.. ها .. ها .. ها.. وكركرتْ ضحكتُها..‏

    كانت الفأرة تقومُ بمهمَّتها بنشاطٍ وحيويّةٍ، تقرضُ وتقرضُ وهي تغنّي بين الصّفحات المرتجفةِ الخائفة:‏

    ما أسعدَني، ما أسعدَني !‏

    دِفءُ الأوراقِ يُصاحبني‏

    والّليلّ الهادئُ يعرفُني‏

    هذي الصفحات تُكركرني‏

    ما أسعدني، ما أسعدني!..‏

    وحينَ تركتِ الرفَّ الأخيرَ، قفزتْ إلى المنضدةِ المستديرة في وسطِ غرفةِ المكتبة. وكان هناك بعضُ مجلاّت الأطفالِ، وبعضُ الكتب، فتوقّفتْ تقلّبُ صفحاتها وهي ما زالتْ تغنّي وتضحكُ، ولم تُسمعْ في البيت الهادئِ إلاّ دقّاتُ الساعةِ في الصّالةِ..‏

    فتحَ الهرُّ" فلفل" عينيه، وأرهفَ سمعهُ وأذنيه، كانتْ هناك خشخشةُ أوراقٍ وصوتُ غناءٍ، وضحِكٌ، وكركرةٌ؛ تلفّتْ يمنةً ويسرةً، فلم يجدْ شيئاً، غير أنَّهُ شمَّ رائحةَ الفأرة الرمادية، فسار على رؤوس أرجلهِ بخفّة ورشاقةٍ حتى أصبح أمام غرفةِ المكتبة...‏

    كانت الفأرة قد بدأت تحكَّ أنفها بصور مجلّة الأطفال، وقد أثارتها الصفحاتُ الزاهيةُ والصّورُ الملوّنة.. صارت تُدغدغُ رأسَها وأذنَيها، وتُمرّغُ فمها وهي تغنّي..‏

    ما أسعدني ما أسعدني!‏

    عالمةً صرتُ مدى الزمنِ‏

    دِفءُ الأوراقِ يُدغدغُني‏

    والليلُ الهادئ يغمرُني‏

    ومجّلةُ طفلٍ تعرفني‏

    والصورُ الحلوة تسحرُني‏

    ما أسعدني، ما أسعدني!‏

    ........‏

    رفعت الفأرة رأسها عالياً، وفتحت ذراعيها ثم قالت:‏

    - أنا، الآن، فعلاً، عالمةٌ بكلّ شيء، لقد اكتسبتُ كثيراً من المعارف والعلوم، صرتُ أفهمُ في الجغرافية، صرت أعرفُ الأشعارَ والقصائدَ، وها أنذا ألتهمُ القصصَ والحكايات..‏

    سمع القطُّ" فلفل" ذلك.. وبقفزة واحدة صار أمامها. تماماً فوق المنضدة، نظرت الفأرة الرمادية إليه برعبٍ، وقد اهتزّ ذيلها كأنّما مسّهُ تيارٌ كهربائيّ..‏

    كشف" فلفل" عن أسنانه البيضاء النّاصعة، وبدا شارباه جميلين وهو يقول:‏

    - سأكونُ أكثرَ علماً منك، وأكثر معرفةً لو التهمتك على الفور يامغنّيتي الظريفة، ذاتَ الصوتِ السّاحر..‏

    لكنّ الفأرة الرمادية، التي أحبّت مجلاّت الأطفال كثيراً، قفزت بعيداً عن القطّ " فلفل" واختبأت بين صفحاتها، ثم.. اختفتْ!!‏

    قلّب" فلفل" كلَّ مجلّةٍ صفحةً صفحةً، بحثاً عنِ الفأرة المغنّية، فلم يعثر لها على أثرٍ.. قرأ الصفحاتِ ودقّقَ في زواياها وصُوَرِها، ولكنّه لم يجدْ شيئاً..‏

    ولايزال" فلفل" ينتظرُ، صدورَ كلّ مجلّةٍ للأطفالِ. في كلِّ أسبوعٍ أو في كلِّ شهرٍ،لعلّهُ يعثرُ على الفأرةِ الرماديةِ المغنّية، ولايزالُ البحثُ جارياً..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كانَ الصّباحُ رائعاً.. والحياةُ بدأت في الغابةِ، الأشجارُ تتمايلُ بهدوء- وأغصانُها تتمطّى باسترخاء.. والعصافيرُ الملوّنة تنتفضُ في أعشاشِها فيلتمعُ ريشُها..‏

    ثم لا تلبثُ أن تقفزَ إلى السّماءِ الزرقاء..‏

    أمّا الأرانبُ البيضاءُ الصّغيرةُ؛ فقد انطلقتْ تنسلُّ هُنا وهناك بخفّةٍ ورَشاقةٍ تقضمُ الأعشابَ الطريّة، وتطاردُ الفراشاتِ. وتداعبُ الأزهار..‏

    .. منْ بعيدٍ.. ظهرتْ عربةٌ عتيقةٌ، فوق الطريق المتعرّجة، يجرّها حمار هزيل، كانت تتأرجح بركّابها ذات اليمين وذات الشمال تثير وراءها سحابة من الغبار، وهي تقرقع بعجلاتها الخشبية، تنشر الضوضاء فيما حولها، وتعكّر صفو الصّباح الجميل..‏



    توقّفت الأرانب، نشرت آذانها الطويلة تستطلع القادمين ، لكنّها ما لبثت أن هربت مذعورة تنادي الأمان، وطارت العصافير بعيدة في الفضاء، ثم اختفت عن الأنظار.. أيّ صباح هذا؟!‏

    ......‏

    .........‏

    بدت العربة تسير بتثاقل وضجيج، تئن وتصرصركأنما تشكو لسكّان الغابة حظها التعيس بل إنّها تتوقف بين الفينة والفينة، حسب مزاج الحمار الهزيل..‏

    كان الحمار ينصب أذنيه إلى الأمام، ويسرح مستغرقاً في التفكير، وحين يفرقع السوط فوق رأسه يعضّ طرف الحبل، ويضرب الأرض برجليه ويحرن..‏

    أيّة معاملة هذه التي يلقاها!!‏

    عندئذ يبرز رأس أمّ سرحان العجوز الشمطاء، يرتفع نقيقها حادّاً غاضباً، كان ذلك هو صوتها الذي يشبه قوقأة الدجاج، إنّها تأمر الحمار أن يتابع المسير..‏

    - هيّا.. هيّا، إلى الأمام، ياغندور..‏

    لكنّ الحمار لم يكن يسمع ، لأنه لايبالي بهذا النقيق المزعج!..‏

    هدوء الغابة يغريه بالتوقّف.. والتأمّل.‏

    ما أطيب العيش هنا! ما أجمل الانطلاق في قلب هذه الغابة الساحرة! لا عربة يجرّها، ولا سوط يفرقع وراءه، ولا صراخ هذه العجوز المجنون.. لاتنقّل بين القرى، ولا تعب.. ولا جوع، ولا تشرّد..‏

    ما أحلى أن ينعم بالحرية دون حدود، ينام كيفما يشاء، ويستيقظ حين يحبّ أن يستيقظ، يأكل ما يشتهي، ويتمرّغ فوق هذا العشب الغضّ، يستلقي حين يريد.. لقد سئم هذه الحياة، وملّ صحبة أم سرحان ونقيقها المتواصل، ملّ زوجها أيضاً، وحيواناتها، ملّ الألعاب التي يعرضونها على النّاس لقاء لقيماتٍ معدودة.. كره حياة التمثيل، والتصنّع، والتزييف، وطلاء الوجوه، وتبديل الأقنعة، كره أصدقاءه كلّهم الكلب نمرود، الذي ينبح دون توقّف. والقرد شدهان الذي يعاكسه دائماً، والقطّة عبلة، والديك يقظان، ألايحقّ لغندور أن يستريح بعد الخدمة الطويلة، والتعب، والركض بين القرى والبلدان؟!‏

    وشعر غندور بالحزن، ولم يكن بمقدوره إلاّ أن يقف معانداً أمّ سرحان، والاحتجاج على سوء حظّه، فحرن وبدأ ينهق بصوت عالٍ:‏

    - هيء.. هيء.. هيء.. هاء..‏

    زعقت أمّ سرحان:‏

    - أيها التّعس، ما بك اليوم، يبدو أنّك مشتاق للسعات السّوط. ها.. جلدُك بحاجة إلى حكّ.. هيّا.. هيّا قبل أنْ أسلخه..‏

    نبح نمرود من ورائها بصوت مبحوح، إنّه يشارك في الفوضى التي بدأت تسود ركاّب العربة، قفز شدهان في الهواء، قلّب شفتيه وضحك ساخراً وهو يقول:‏

    - الحمار أغبى الحيوانات، انظروا ‍.! غندور يرفض المسير.. ارتفع صياح الديك المعهود:‏

    - كوكو.. كو كو.. أنا أوافق على رأي القرد!‏

    ولم يجد أبو سرحان بدّاً من التدخّل ليحسم الأمر، فاندفع يهدّد الحمار؛ وهو يليّح بالسّوط في الهواء. إنّه يريد أن يعيد الهدوء إلى العربة،‏

    لينطلق إلى المدينة، يعرض ألعابه البهلوانية ويكسب المال...‏

    تزحزح غندور قليلاً. صرّت عجلات العربة وهي تدرج ببطء على الطريق، لكنّه فطن إلى شيء.. إنّه جائع، والحيوانات كلّها جائعة مثله، وستشاركه في الاحتجاج هذه المرّة، نهق غندور ثانية:‏

    - هيء هيء.. لن أمشي قبل أن آكل!!‏

    وانتبهت الحيوانات إلى احتجاجه، نطّ القرد حتى صار فوق عمود العربة المنتصب، كان يصيح محتجاً: أنا جائع.. جـ.. ائع.. وبدون انتظار لسعه سوط أبي سرحان بخفّة وسرعة، فاستشاط غضباً وزاد صياحه وزعيقه..‏

    صرخت أمّ سرحان:‏

    - أخطأت يازوجي، ما كان عليك أن تضربه، ألم أقل لك منذ قليل، إنّ الجميع جائعون، لن يصبروا مثلنا!!‏

    صار شدهان إلى شجرة قريبة، تعلّق بها وهو يعول حزيناً، أهذا جزاء مهارته في عرض الألعاب على الناس كلّ يوم؟!‏

    هل هذه مكافأته على تعبه لتكون الألعاب مسلّية مثيرة؟! يرضى عنها الناس في كلّ مكان.. لولاه لفشل أبو سرحان في حياته، وما نفع الكلب نمرود؟! والقطة عبلة، والديك يقظان، إن لم يكن معهم!! أسرع القرد يبتعد غاضباً حانقاً.. صاحت العجوز:‏

    - شدهان . ياعزيزي، عُدْ إليّ، لاتغضبْ. أما اشتقت إلى حضني، لاتجعل الغضب يستولي عليك بسرعة..‏

    لكنّ شدهان رفض أن يسمع كلمة واحدة، انطلق يقفز من شجرة إلى شجرة كأنّما أصابه الجنون.!.‏

    قال أبو سرحان:‏

    - فعلتها، أيها الحمار الغبيّ، أنت دائماً تثير الشّغب بين أفراد الأسرة ، تحرن على الطرقات، وتفسد بقية الحيوانات!!‏

    ........‏

    العربة ما زالت واقفة.. ركّابها تفرّقوا..‏

    عمّت الفوضى وسادت البلبلة.. الديك يتوسّل إلى صديقه شدهان، راجياً أن يعود، القطة تموء طالبة الهدوء، والكلب ينبح وأم سرحان تنقّ وتطمئنهم أنّ رغباتهم ستتحقّق!.‏

    ركض أبو سرحان في أثر القرد. كان يناديه ويعتذر عن تصرّفه السّابق..‏



    - شدهان، شدهان، أنت تعرف مقدار حبيّ لك ستأكل قبل الجميع، تمنّ ورغبتك مستجابة!..‏

    كان القرد قد صار علىرأس شجرة عالية، أدار ظهره، وتظاهر بالحزن، بدأ يضحك بينه وبين نفسه، إنّ أبا سرحان يرجوني؛ إنّ أمّ سرحان تناديني بـ ياعزيزي ؛ إنّهم يشعرون بأهميتي، حقاً، أنا ذو مكانة رفيعة بينهم، لن أقبل بالذلّ بعد اليوم، لن أسمح للسوط أن يلسعني، سأقاوم الظلم، سأحتجّ وأثور، هذا حقّي، وحقّ رفاقي أيضاً، لقد غلطت مع الحمار غندور، إنه ليس أغبى الحيوانات على الإطلاق.. إنّه- هذا النهار- أذكاها وأروعها- هذا رأيي، سأجهر به دائماً!..‏

    ..........‏

    ..............‏

    انقطع صوت أبي سرحان، ما باله لم يعد ينادي.... ساد صمت ثقيل، ومرّت لحظات بطيئة، صاحت أم سرحان:‏

    - أين أنت يازوجي!..‏

    لم يبد أيّ أثر للرجل!..‏

    ياللغرابة!..‏

    منذ قليل كان في هذا المكان، تحت هذه الشجرة، غير معقول.. لقد اختفى أبو سرحان ! كيف حصل ذلك؟! صفّق القرد شدهان معلناً وجوده فوق الشجرة العالية، لم يكن هذا له أهمية، فأبو سرحان وحده الذي يشغل بال الجميع.. ارتفع صياح أم سرحان:‏

    - أين أنت يازوجي العزيز؟ ليس هذا وقت المزاح!.. بدا السكون يسود كلّ شيء...‏

    تلفّتت العجوز حولها، الأشجار هادئة غير مبالية. الغابة صامتة صمتاً عجيباً، الكلب نمرود يبصبص بعينيه ويهزّ ذيله.. الديك يمطّ عنقه ولا يعرف ماذا يقول.. القطة تلوذ يجذع شجرة وتحدّق ببلاهة، الحمار في مكانه أخذته الدهشة.. أين أبو سرحان؟ كأنّما ابتلعته الأرض، أيّة غابة مسحورة هذه ، الغموض يلفّ الأشياء، ولولت أم سرحان:‏

    - آه.. إييه.. يازوجي العزيز، ما نفع الحياة بعدك! تجمّعت الحيوانات حولها، حتى القرد تسلّل بخفّة وهبط واقفاً إلى جانبها، ماءت القطة:‏

    - كلّ هذا بسببك ياشدهان !‏

    - بل بسبب الحمار!‏

    ردّ شدهان حزيناً،...‏

    قال الديك:‏

    - ليس هذا وقت توجيه الاتّهامات، فكّروا ماذا نعمل، نحن في مأزق!!‏

    نصب نمرود أذنيه : وهمس:‏

    - سكوت.. أرجوكم.. الهدوء.. لاترفعوا أصواتكم بدا كرجل المباحث، أخذ يشمّ الأرض، ويدرس انحناءة الأعشاب، إنه يعرف كيف يقتفي الآثار، إنه وحده سيكشف الأسرار..‏

    نظر الجميع إليه بتقدير واحترام، حتى القطة عبلة تمسّحت به، وربّتت بيدها تلاطفه، فنهرها وهو يرميها بعينيين ناريتين..‏

    - ابتعدي، ليس هذا من شغلك. ابتعدي عن طريقي!.‏

    هتفت أم سرحان بهدوء:‏

    - هيّا يانمرود.. ابحث بدقّة عن معلّمك.. أيّة غابة ملعونة هذه؟!‏

    ***‏

    وحده انطلق نمرود في مهمّته، لم يكن هناك صوت يُسمع؛ حتى الحمار بدأ يهرش رأسه بطرف العربة من دون صوت، وأمّ سرحان استندت إلى جذع شجرة، واضعة رأسها بين كفّيها، أهكذا ينتهي صخبهم!! إنّهم يشعرون بالأسف والحزن، ما أصعب أن يحلّ الشّجار والنّقار بين أفراد الأسرة الواحدة!...‏

    ........‏

    ...........‏

    ونبح نمرود..‏



    -هّوْ هَوْ.. هو هو.. هَوْ هَوْ..‏

    كان نباحاً ظافراً. مستبشراً، ركضت أمّ سرحان ركضت الحيوانات وراءها، تحلّق الجميع حول حفرة عميقة مغطاة بالحشائش والأغصان، نظروا بدهشة، فغروا أفواههم، هذا هو أبو سرحان وسط الحفرة وقد أغمي عليه، صاحت أم سرحان:‏

    - أبا سرحان.. يازوجي العزيز، هل أنت بخير.. لم يكن هناك من يجيب.!.‏

    صاح الديك:‏

    - كو كو كو.. ما العمل- أيّها الأصدقاء- لن نقف مكتوفي الأيدي!‏

    ماءت القطة:‏

    - نياو.. نياو..تحركوا..اعملوا شيئاً.!‏

    قالت أم سرحان:‏

    - إليّ بالحبل، من العربة، ياشدهان.. تحرّك، لاتقف مفتوح الفم هكذا..‏

    واستعدّ الجميع..‏

    وقفوا متكاتفين لإنقاذ معلّمهم، لقد تعلّموا أن يتعاونوا في الشدائد، فالاتحاد قوّة، ويد الله مع الجماعة..‏

    ..........‏

    .................‏

    مرّت لحظات بطيئة،...‏

    استفاق أبو سرحان، فوجد نفسه بين أصدقائه. كانت أم سرحان تبتسم، والحمار غندور أيضاً، والقرد شدهان، والقطة عبلة، والكلب نمرود، والديك يقظان.. هتف غندور:‏

    - عاد معلّمنا .. عاد معلّمنا!..‏

    هتفت أم سرحان:‏

    - بل عاد الحبّ .. والوئام إلى أسرتنا..‏

    معذرة يا أصدقاء.. سنصيب طعامنا وننطلق من جديد، ونحن أكثر تماسكاً ومحبّة..‏

    صفّق الأصدقاء..‏



    واقتربت القطة عبلة من الكلب نمرود، هرّت بين يديه، ثم تمسّحت به، لم ينهرها هذه المرّة، لأنه كان يكشّر عن أسنانه و.. يبتسم..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    تحت عريشة العنب .. فوق المصطبة الحجرية المشرفة على باحة الدار الكبيرة، كان جدّي يجلس كل مساء..‏

    تعدّ جدّتي القهوة، وتهيئ المساند والوسائد، ثم تأمرنا بحزم قائلةً:‏

    - العبوا هناك، قرب السّور. العبوا بهدوء! كنّا نقفز كالعفاريت، نعرض مهاراتنا في الجريِ والوثبِ والتسلّق من شجرة التوّت إلى بوابة الدار العريضة. إلى خمّ الدّجاج.. بعضنا يحمل على كتفه خشبة أو يمتطي قصبة طويلة كالحصان ، يمشي بخطوات العساكر:‏



    - واحد.. اثنان، واحد.. اثنان..‏

    أو يرتفع صهيل متقطّع:‏

    - هي هي.. هي هي.. هي هي..‏

    أمّي تبتسم، وجدّتي تبتسم، وربّما جدّي أيضاً يبتسم. كان يُسْعِدُه أن يرانا حوله، يحتضن أحفاده الصّغار، يزحف إليه محسن، وتركض نحوه فاطمة، ويتمسّح به هاني، وهو بهيبته ووقاره يربّت على أيديهم أو يداعب رؤوسهم..‏

    عناقيد العريشة تتدلّى فوقنا كالمصابيح، حبّات العنب كبيرة لامعة، تشفّ عمّا فيها من عصير سائغ رقراق، تقول لنا أمّي:‏

    - تعالوا، ذوقوا، ياأولاد، إنّه من فاكهة الجنّة!-‏

    نلتقط الحبّات النّاضجة. نتلذّذ بالعنب الشهيّ، نرى في لونه الأحمر ما يثر النفس، ويحرّك الّلعاب، لقد أَحْبَبْنا هذه العريشة، أحبننا ظلالها الوارفة، وثمارها الّلذيذة. أحببنا أماسي الصيف في الدار الكبيرة.. جدّتي بثوبها الأزرق المنقّط بزهور بيض صغيرة، تروح وتجيء، تسقي شجيرات الورد، وشتلات الزنبق،...يتضوّع الياسمين، يعبق أَريجُه المُسْكِرُ، تعبق رائحة الفلّ والسوسن، والأقحوان، أسطح البيت تتألق بالضياء، حُمْرةُ الغروب في الأعالي، والحمام السابح في الفضاء يمدّ أجنحته البيضاء. يطير في دورانه المَرِح سعيداً، قبل أن يعود إلى أبراجه فوق السّطوح يهدل أمامنا، يقدّم تحية المساء ثم يغفو آمناً..‏

    ..........‏

    ....................‏

    وجاء مساء، لم يكن كما ألفناه..‏

    ارتفع صياح مزعج في باحة الدار، وعلا ضجيج وصخب.. أعلنت جدّتي وهي تضع كفّها على خدّها:‏

    - يه.. يه.. يه.. الدّجاجة القرمزية اختفت!‏

    ركضت أمي وهي تصيح:‏

    - والأرنب.. الأرنب الصغير الأبيض لا أثر له!‏

    قال أبي بهدوء:‏

    - اسألوا جارتنا أم محمود!..‏

    ومن وراء السّور، ظهر رأس أم محمود، بدت على وجهها آثار التّعب ، كانت دامعة العينين، وفي صوتها رَجْفة.. قالت:‏

    - الدجاجة القرمزية، و.. الأرنب أيضاً.. لقد فقدت منذ يومين البطة الرمادية السمينة!!‏

    قال أبي:‏

    - معقول.. ماذا أسمع؟‏

    صاح أبو حمدان، وهو يطلّ من البوّابة:‏

    - أنت آخرُ مَنْ يعلمُ!..‏

    ردّ عليه أبي:‏

    - ما هذا الكلام، ياجارنا..؟!‏

    أكمل أبو حمدان ساخراً:‏



    - الثعلب يشنّ غاراته، وأنت لاتدري!..‏

    نظر أبي إليه بقلق، وأبو حمدان يتابع حديثه:‏

    - الحِمْلان عندي.تنقص اثنان رضيعان سُحبا..وها قد جاء دورك.. دجاجة ، ثمّ .. أرنب.. انتظر. هاه.. هاه.. وغداً منْ يدري، ربّما يصل إلى الصّغار!‏

    أسرع أبي والغضب سيطر عليه.. حمل فاسه، ثم ركض باتجاه الدّغل القريب، ركضت وراءه أمّي وهي تحمل فأساً صغيرة أيضاً، ركض أخوتي.. لحق بهم أبو حمدان، ثمّ زوجته ، ثمّ أمّ محمود وزوجها.. وأبو خالد.. حتى جدّتي وصلت إلى أوّل الدّغل وهي تلهث.. وقفوا هناك، تشاوروا.. ارتفعت اصواتهم، مِنْ هُنا.. بل منْ هُنا.. كَثرُ صياحُهم، وقفت النساء إلى جانب أزواجهنّ، كلّ امرأة بجانب زوجها، تؤيدّه، ملأ الفضاء ضجيج وكلام كثير غير مفهوم.. تطاير السّبابُ.. تطايرت الشتائم.. من هنا.. ومن هناك.. اشتعل نقاش بين أبي وجارنا.. أبو حمدان يقول:‏

    - قلت لك: الثلعب يمرّ من هذا المكان!‏

    ردّ أبي:‏

    - أنت مخطئ، منْ هنا يمرّ..‏

    يجيب أبو حمدان:‏

    - انظر.. هذه آثار أقدامه..‏

    يسخر أبي:‏

    - غلطان، هذه ليست آثار اقدام ثعلب!‏

    - أنت أصغر منّي ولا تعرف شيئاً!‏

    - بل أنت لا تعرف، وتريد أن..!!‏

    وجذب أبي ثوب جارنا، وجذب أبو حمدان ثوب أبي، تشابكت الأيدي، وارتفع صياح النساء. وامتدت الفؤوس، لكنّ جدّتي صاحت بحزم:‏

    - عيب.. ما هذا؟!‏

    نظرت إلى أبي ، ثمّ إلى جارنا أبي حمدان، وقفتْ بينهما:‏

    - تتعاركان بدون سبب!.. هل هذه طريقة تقضون فيها على الثعلب!.. واخجلتاه!!‏

    انسحب أبي من المعركة، انسحب حمدان أيضاً، ساد الهدوء، وقد وقفا بعيدين، كديكين لم يكملا القتال.. كانا خَجِلَيْن.. وجدّتي بينهما حزينة..‏

    ..... وعند المصطبة. أمام جدّي الذي لم يغادر مجلسه، تعانقا، كان ابو حمدان هو الذي أسرع إلى أبي يضمّه إلى صدره.. قال جدّي بهدوء:‏

    - يؤسفني ما حصل، كَثْرةُ الأقوال تبطل الأفعال، الثعلب ماكر، وأنتم تتشاجرون، ولم تفعلوا شيئاً حاسماً!..‏

    وأمام الجميع. وضع جدّي بين يديّ أبي فخّاً..‏

    نظر إلى عينيه مباشرة، وتمتم بِحَزْم:‏

    - انصبه جانب السّور، قريباً من خمّ الدّجاج، ولا تنسَ السلسلة، فالثعلب ذكيّ، يعرف الطريق إلينا جيّداً!..‏

    .......‏

    ..............‏

    مرّت تلك الليلةُ، ولا حديثَ لنا إلاّ غارات الثّعلب النّاجحة، تذكّرنا بطّةَ أمّ محمود السمينة؛.. كيف سحبها الثلعب؟.. كم كانت وديعة طيّبة، تسوق صغارها. ثم تتهاوى فوق مياه البركة كالسّفينة!.. تذكّرنا الأرنب، أوكرة القطن المنفوشة، وهو يتدحرج في الباحة هنا وهناك ودجاجتنا القرمزية التي تطير فوق السّور.. أما كان بإمكان الديك المتعجرف أن ينقذها من مخالب الثعلب المهاجم؟! تذكّرنا الحِمْلان الصّغيرة التي ظَفر بها.. هل كانت تثغو وهي بين يديه، أم أنّ منظر الثعلب أخرسها؟ ليس هناك أمانٌ..‏

    دجاجاتنا السّارحة تلتقط الحبَّ وهي خائفة، صارت كثيرة التلفّت والمراقبة.. الطيور والعصافير لاتبتعد عن أعشاشها، حتى الحَمامُ أوى إلى ابراجه دون أن يرفعَ هديلَه إلينا، أو يرقص في دورة المساء، حتى الأرانب اختفت وهي ترتجف.. فالثعلب يشنّ غاراته الليلية، ولا يترك خلفه إلاّ الريش.. حتى ألعابُنا توقّفتْ، وجدّتي نبّهتْ:‏

    - ابتعدوا عن السّور. تلك أوامرُ الجدّ!!..‏

    كنّا نلمحُ سلسلةً طويلة تمتدّ من شجرة التّوت، ثم تغوصُ قريباً من السّور.. لكن أحداً لم يقتربْ منها،. صار مجلسُنا، جميعاً، فوق المصطبة، في حَضْرة الجدّ، الذي يسعده وأن يرانا حوله.. أنا.. ومحسن، وهاني، وفاطمة.. وإخوتي بينَ يدَيْه.. وقد اتّكأ على وسادة فوقها صور فراشات وأزهار، والقمر لم يصعد، بعد، إلى قبّة السماء، والهدوء الشّامل يلفّ الدّار..‏

    وعلى غير انتظار ، مزّقَ الصّمتَ صَرْخَةُ حيوانٍ حادّةٌ، تشبه نباح كلب ، كانت صرخة واحدة ، انطلقت منْ جانب السّور الحجريّ، أو تحت شجرة التّوت، رأينا جدّي ينهض بهمّة الشباب، وفي عينيه بريقُ النّصر، على الرغم من أنّ الصّرخة، هذه المرّة، امتدّت طويلة، لكنّها لم تكن نباحاً، بل عواءً متميّزاً بعث فينا القلق والخوفَ..‏

    -عوو.. وو.. و.. عوو.. و.. و..‏

    أعقبتها مباشرة قوقأة الدّجاجات، خائفة مرتعدة وركضنا وراء جدّي، الذي اندفع إلى مصدر العواء، وعصاه الغليظة في يده..‏

    .......‏

    كان هناك ثعلب .. كبير.. لم أرَ مثلَه في حياتي.. وقد أمسك الفخّ بأحد مخالبه.. بدا مقوّس الظّهر يحاول استخدامَ أرجله الثلاث الطليقةِ في تحرير الرّجل المقيّدة...‏

    وأمام جدّي راح يقفز بجنون من جانب إلى آخر.. والفخّ مربوط بسلسلة طويلة، أحاطت بجذع شجرة التّوت..‏

    ارتجفت الأوراق والأغصان.. ارتجفت الدجاجات في الخمّ.. ارتجفنا- نحن الأولاد- أمام قفزات الثعلب المجنونة.. كان يعضُّ الفخَّ بقسوة، وعيناه تلمعان بالغضب.. لكنّ جدّي وحده الذي لم يكن خائفاً..دفعَ عصاه الغليظة نحو رأس الثعلبِ مباشرةً، فتوقّفَ عن قفزه.. كان مستسلماً مخذولاً.. ولولا تلك السلسلة لكان قد فرَّ بالفخّ بعيداً..‏

    جاء أبو حمدان.. جاء أبو خالد.. وجاءت أم محمود، والجيران جميعاً.. كانوا سعداء وهم يرون الثعلب الأسير الذي وقع في فخّ جدّي .. هادئاً‏

    مهزوماً..‏

    في عيونهم التمعتْ نظراتُ المودّةِ والحبِّ والعرفان، أحاطوا بجدّي، غمروه بمحبّتهم.. وجّهزّتْ أمي الشاي المعطّر بالنعناع، دارتِ الأكوابُ، وارتفع هديل الحمام ناعماً شجيّاً..‏

    ..........‏

    قالتْ جدّتي:‏

    - أرأيتم، يأولادي، الذي يعمل لايتكلّم..‏

    نحن نكسّبُ ما نريدُ بهدوئنا وعزيمتنا.. لابالكلامِ والشّجار والثرثرة..‏

    وكان جدّي ينقّل أنظاره بيننا، واحداً واحداً، ويبتسم..‏

    ..............‏

    واليوم، إذا زرتم دارنا الكبيرة، ودخلتم مضافة جدّي الفسيحة.. الرحبة.. رائحة القهوة تستقبلكم. سوف تتعلّق أعينكم بالجدار الكلسيّ هناك، ستلمحون فوق الجدار سيفاً بغمده- هو سيف جدّي- وإلى جانبه فراء ثعلب كبير، تلك علامة فارقة تشتهر بها مضافة جدّي!...‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  21. #21
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    حكاية لجدّي لست أنساها:‏

    كنّا حوله ذلك المساء من أيام الصيف، فوق المصطبة الحجرية، نحيط به، وهو في صدر المكان، والهدوء يشمل الدار، كنّا نصغي إليه، نحلّق بعيداً مع حكايته التي لاتُنسى..‏

    ذلك التاجر الشاب منصور في دكاّنه، يطالعك في أول السوق ، بوجهه الوسيم، وابتسامته الهادئة، وعينيه الصافيتين، يعرض بضاعته أمامك..‏

    - هذا قماش من الهند، وذاك من الشام، وهذا حرير طبيعي من الصّين..‏

    التاجر الذكيّ رأسماله الصّدق والأمانة، والبضاعة الجيّدة، واسم" منصور" في السوق على كلّ لسان، حتى صار التّجار الكبار يحسدونه، فتجارته رائجة، وبضاعته من الأقمشة والحرير مشهورة والناس يتزاحمون على دكاّنه ، لأنه يرضى بالقليل من الربح.. كان منصور يردّد دائماً:‏

    - كن متسامحاً في بيعك تكسب كثيراً من الأصحاب والزّبن..‏

    وذات يوم، جاءه رجل غريب، وقف يقلّب نظره في الأقمشة، ويتلمّس الحرير، ثم بدأ ينتقي أجودها، قال الرجل الغريب:‏

    - أنا تاجر مثلك، وقد أعجبتني بضاعتك، أريد شراء هذه الرّزم، ولكنْ، ليس معي ما يكفي ثمناً لها، إذا أتيتني إلى مدينتي أكرمك، وأدفع لك الثمن..‏

    أجاب منصور باسماً:‏

    - لابأس عليك، خذ ما تشاء، ليس من عادتي أن أرفض طلباً..‏

    أخذ الغريب ما أراد، تخيّر أحسن الأقمشة، وانتقى أفضل الأثواب، وجمع منصور ذلك كلّه في رزم كبيرة، حملها معه حتى آخر السوق، ثم ودّعه قائلاً:‏

    - رافقتك السلامة.‏

    ..................‏

    مرّت أيام وشهور طويلة، أحبّ منصور أن يروّح نفسه من عناء العمل، فجهّز حاله للسفر وزيارة ذلك التاجر الغريب في مدينته البعيدة..‏

    كان الطريق شاقاً، والسفر صعباً.. وقد وصل منصور المدينة قُبيل مغيب الشمس، فأسرع إلى السوق يسأل عن الرجل.. توقّف أمام متجر كبير، كان هناك عمال كثيرون وزُبن ومشترون، وفي صدر المتجر رأى الرجل الغريب نفسه، دخل منصور عليه، فأنكره الرجل، وحلف أنّه لم يره من قبل، ولم يشتر منه شيئاً، ولم يسافر إلى مكان طوال حياته. وحين أشار إلى عمّاله، أحاطوا بمنصور ثم طردوه خارج المتجر‍!.‏

    حزن منصور كثيراً، وشعر بأنه كان مغفّلاً حين صدّق رجلاً غريباً، وأعطاه بضاعة كثيرة دون أن يقبض قرشاً واحداً، ولكنْ.. ماذا يفعل؟؟..‏

    لجأ إلى نُزلٍ يقضي فيه ليلته، ولم يكد يستسلم إلى النوم ، حتى هبّ على دقّات طبل يدوّي في أرجاء المدينة:‏

    -" بم.. بم.. بم.. بم..".."بوم".‏

    استغرب منصور وسأل صاحب النُّزل عند ذلك، فقال له:‏

    - تلك عادتنا، في هذه المدينة، عندما يموت شخص يدقّ الطبل أربع دقّات، وإذا مات رجل أرفع مكانة دقّ عشر دقّات، ولكن عندما يموت الأمير فإنّهم يقرعونه عشرين مرة!..‏

    التمعت فكرة في رأس منصور ، فترك منذ الصّباح الباكر غرفته، وقصد قارع الطبل، كان لايزال نائماً، أيقظه وأعطاه ليرة ذهبية طالباً إليه أن يقرع الطبل ثلاثين مرة!‏

    ودوّى الصوت قوياً.." بم.. بم.. بم.. بم.. بوم بم.. بم.." ثلاثين مرّة، هزّت المدينة النائمة، وأيقظت الراقدين، سادت البلبلة، وعمّت الفوضى، وتراكض الناس في الطرقات صائحين:‏

    - يالطيف ! ما الذي جرى؟ أية مصيبة وقعت!..‏

    ...............‏

    وفي قصر الأمير، استدعي قارع الطبل، وسأله الأمير بنفسه:‏

    - لماذا فعلت ذلك؟‏

    فقال:‏

    - هناك تاجر اسمه منصور طلب منّي هذا بعد أن أعطاني ليرة ذهبية!‏

    غضب الأمير واستفسر:‏

    - من يكون هذا التاجر؟ أحضروه في الحال!..‏

    ...........‏

    ومثل منصور أمام أمير المدينة..‏

    كان هادئاً ، ووجهه يفيض بالصّدق، قصّ عليه ما كان من غدر الرجل واحتياله، وقال:‏



    - إذا كانت وفاة الأمير- لاسمح اللّهُ- تعلّن في عشرين قرعة، فلماذا لايعلن موت الأمانة والصّدق بثلاثين!؟..‏

    أعجب الأمير بذكاء التاجر منصور ، فقرّبه منه، وأكرمه غاية الإكرام، وطيّب خاطره، بعد أن قال له:‏

    - لن يموت الصّدق.. ولن تموت الأمانة بين الناس!..‏

    ثم عوقب الرجل المحتال عقاباً أليماً، بعد ما دفع أثمان البضاعة..‏

    أمّا منصور فقد رجع- بعد أيام- إلى مدينته ظافراً غانماً، وهو يحمل الهدايا الثمينة، والهبات الكثيرة، وقد اكتسب صداقة ألأمير، وصار اسمه يتردّد في كلّ مكان..‏

    ..........‏

    هل عرفتم، ياأصدقائي، لماذا كنّا نحلّق مع حكاية جدّي، بعيداً، ونحن نصغي إليه؟‏



    حكايته جميلة ، ومن الصعب أن ننساها..........‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  22. #22
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كانت" شمّوس" بقرة محبوبة، تعيش في بستاننا، تأكل العشب طوال الصّيف، وتأكل القشّ طوال الشتاء، ولاتقوم بأيّ عمل في الصّيف أو في الشتاء سوى أنّها تأكل.. و.. تأكل... وكان جدّي يحبّها، ويقول:‏

    - شمّوس بقرة ممتازة، تعطينا كثيراً من الحليب الأبيض الدّسم!!‏

    أمّا جدّتي فما أكثرما سمعتها تتباهى أمام الجيران وتقول:‏

    - منذ دخلت" شمّوس" البستان والخير جاء معها!!‏

    وكم من مرة رأيّتها تحدّثها:‏

    - كُلي.. كَلي ياشمّوس، كلّما أكلت أكثر أعطيتنا مقداراً من الحليب أكبر!..‏

    وحين سألت جدّتي:‏

    - لماذا سمّيت بقرتنا بشمّوس!!‏

    ضحكت وقالت:‏

    - جدّك هو الذي أطلق عليها هذا الأسم.. انظر إلى طلعتها البهيّة، ألا تشبه شمساً صغيرة، تنوّر بستاننا، وتدخل الفرحة إلى قلوبنا، وهي تتهادى بين الأشجار؛ وتسرح آمنة لطيفة؟!‏

    وشمّوس أحبّت حدّي، وأحبّت أيضاً جدتي، بل أحبّتْنا جميعاً.. لذلك كانت تأكل أكثر لتبعث السرور في نفوسنا..‏

    وأمام البستان، كان هنك طريق ترابي، يقطعه الحصان " بدران"، يأتي بالعربة، كل صباح، ليأخذ الحليب والجبن إلى البلدة القريبة..‏

    ذات مرة، أخبر " بدران" بقرتنا" شمّوس عن البلدة القريبة، على الرغم من أنّها لم تسأله.. قال:‏

    - الشوارع مرصوفة بالحجر، والأرصفة نظيفة لامعة، وأسطح البيوت عالية، تطير فوقها العصافير واسراب السنونو.. أمّا الأطفال فهم يذهبون إلى المدارس، يحملون كتباً ودفاتر، ويركضون مسرورين صاخبين في الذهاب والإياب، والناس يركبون الدراجات، ويطلقون رنين أجراسها مبتهجين، ترن.. ترن.. ترن ..أمّا السيارات فلا أستطيع وصفها.. يكفي أنّها تنطلق مسرعة في كلّ الطرقات.. وسائقوها ماهرون!.‏

    رغبت شمّوس أن ترى الأشياء التي تكلّم عنها بدران،.. كانت ضجرة من البستان ، ومن بيت جدّي، ومن المخزن الكبير، والطاحونة التي لاتعمل.. و.. و..‏

    خلف البستان كان هناك نهرصغير، في الصّيف، جاء رجل في قارب ليأخذ الجبنة من جدّي إلى السّوق..‏

    نظرت شمّوس إلى القارب فأحبّته..‏

    ظنّت أنّه سيكون حدثاً جميلاً أن تركب في قارب، وتذهب إلى السّوق.. كانت في شوق إلى أن تفعل شيئاً ما.. في شوق إلى أن تقوم بأيّ شيء حتى تتخلّص من الضّجر.. لابدّ أن تذهب لترى أيّ شيء بدلاً من أن تأكل فقط.. بدران يعرف أشياء كثيرة، لأنّه يذهب إلى البلدة هناك، يخرج من البستان، ويسير على الطريق، ويلتقي بالناس وهي هنا لاتقوم بأيّ عمل سوى أن تأكل ..وتأكل.. ولهذا فقد أصبحت شمّوس بدينة، كلّ يوم تزداد بدانة، حتى إنّها تتحرك بصعوبة..‏

    سارت مسافة بعيدة على الطريق المحاذي للبستان.. لم تنظر إلى اليمين، ولم تنظر إلى اليسار كانت تنظر فقط إلى العشب الذي صار مذاقه حلواً ولذيذاً، والفصل ربيع، وهي تعلم أنّه توجد أزهار كثيرة تستحقّ أن تؤكل.. وفجأة.. قبل أن تدرك ما حدث، سقطت في النهر.. لم يكن عميقاً، لكنّها لم تستطع أن تخرج لأنّها بدينة جداَ،...‏

    وقفت في الماء، وشرعت تأكل العشب على الضفّة..وجدّي لم يعرف أن شمّوس في النهر..‏

    كان مشغولاً في صنع الجبن لبيعه في السّوق..‏

    أكلت شمّوس كثيراً من العشب، وشعرت بعدئذ بالنّعاس، لكنّها لاتستطيع أن تنام في الماء.. حدّثت نفسها:‏

    - لو أقدر على العودة إلى البستان.. أخشى أن يغضب الجدّ، أو أن تنتبه الجدّة لغيابي!..‏

    صارت تمشي وهي تأكل العشب، صادفت في طريقها قارباً قديماً، دفعته أمامها، ثمّ تسلّقته واندفع القارب بعيداً عن الضفّة، وسارت شمّوس على طول النّهر فوق القارب الطّافي..‏

    مرّت شمّوس بالبستان.. وبمخزن الغلال..مرّت بدار جدّي، وشجرة التّوت، والطاحونة، مرّت بأزهار البابونج، والأقحوان، والزّنبق الأصفر والأحمر الذي زرعته جدّتي.. مرّت بشقائق النّعمان التي تمايلت نحوها بدهشة، وبأزهار كثيرة ومتنوّعة لاتعرف اسمها..‏

    استمرّت المشاهد تمرّ أمام عينيها والنّعاس فارقهاالآن.. وأصبحت منتبهة لما حولها من مناظر على طول ضفّتي النّهر..‏

    مرّت شمّوس بصف طويل من البيوت ، ثمّ مرّت ببعض الأطفال وهم يلعبون فوق دراجاتهم..‏

    صاح الأولاد:‏

    - انظروا .. بقرة تمرّ في النّهر‍‍!!‏

    ولم يلبثوا قليلاً، حتى ركضوا وراءها على الطريق المحاذي للنّهر..‏

    سمعت شمّوس رنين أجراس الدراجات، أصغت إلى صفير متقطّع.. وصياح وصخب .. كانت سعيدة، فقد صارت موضع اهتمام الأطفال.. رأت الأمّهات في البيوت وهنّ ينظّفن النوافذ، ودرجات الأبواب، لوّحن بمناديلهن الملوّنة لها، وضحكت .. رأت حشداً من الناس، بعضهم يركض، وبعضهم يمشي على طول النهر، يلحق بالقارب الذي تركبه..‏

    شعرت شمّوس بالفرح، لأنّ النّاس يهتمّون بها، أسرع واحد منهم، ورفع بين يديه علبة سوداء صغيرة، والتمع ضوء أمام عينيها. ارتفع صوت:‏

    - ستكون صورة طريفة في الجريدة المحلّية!..‏

    أخذت شمّوس تخور بسعادة.. هم.. هـ.. هـ.. م.. ها.. ها.. آ.. آ..‏

    وحين توقّف القارب.. تقدّم اثنان من الأولاد وسحباها إلى الضفّة بحبل .. لكنّ شمّوس خلّصت نفسها من الحبل، وركضت على طول الشارع، وجدت صعوبة في أن تركض وسط الطريق المرصوفة بالحجارة، لكنّها كانت مسرورة وهي في البلدة..‏

    تابعت شمّوس ركضها في الشوارع،‏

    الأولاد وبعض الرجال يلحقون بها.. وهي تنظر إلى نوافذ البيوت وشرفاتها، وتقفز في الساحات.. لم تهتّم بإشارات المرور، ولا بصفارة الشرطي، ولا بأبواق السيارات الصغيرة والكبيرة، صارت تشمّ الدّراجات الملوّنة، بل تستوقف بعض السيارات وتتأمّل الركّاب والسائقين، وقبل أن تشعر بالتّعب، وصلت إلى ساحة كبيرة فيها حشود من الناس، وأكوام من الخضار والفواكه.. و الجبن والبيض!!‏

    هذا هو السوق كما أخبرها بدران، لكنّ أجمل ما وقع عليه نظرها، الفتيات الصّغيرات يركضن وراء أمهاتهنّ وقد تطاير شعرهنّ الجميل المزيّن بالشرائط الحمراء والخضراء والبيضاءوالزرقاء والصفراء..‏

    كان جدّي آنئذ موجوداً في السوق..‏

    وعندما شاهد بقرته صاح:‏

    - شمّوس.. ما الذي جاء بك إلى السوق؟؟..‏

    كنت أظنّ أنّك في البستان تأكلين العشب!!‏

    أطرقت شمّوس رأسها خجلة ولم تعرف ماذا تقول.. فهي تحبّ جدّي ولا تريد أن يغضب.. يبدو أنّها ارتكبت ذنباً!. فقد أسرع جدّي إلى العربة التي يجرّها الحصان بدران، ودفع البقرة وأدخلها، ثم عاد فوراً إلى البستان- دون أن يكلّمها أو يناديها كعادته..‏

    ***‏

    بعد ذلك، كان جدّي يلقي نظرة على البستان وهو في مخزنه- بين الحين والحين، ليتأكد أنّ شمّوس في مأمن.. وكانت جدّتي لاتغفل عنها طيلة اليوم.. لكنّ شمّوس التي صارت تحت المراقبة، لم تهتّم بذلك، كان في رأسها أشياء كثيرة تفكّر فيها؛ وهي تمضغ العشب اللذيذ.. هل هناك أجمل منها إذا ما ازدان رأسها بتلك الشرائط الملوّنة؟ وكم سيكون مصوّر الجريدة محظوظاً إذا التقط لها صورة ثانية، ربّما ينال جائزة أحسن صورة لهذا العام..‏

    من يدري..؟!...‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  23. #23
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    سألت" رزان" خروفها الأبيض:‏

    - لماذا لم ينبت قرناك، أيّها الخروف الصغير؟‏

    صاح الخروف :‏

    - ماع.. ماع..‏

    ولم يجب ؛ لأنه كما تعرفون لايستطيع الكلام.‏

    سألت" رزان" شجيرة الياسمين:‏

    - كيف أستطيع الوصول إلى أزهارك البيضاء؟‏

    لكنّ شجيرة الياسمين لم تردّ أيضاً، اكتفت بنشر عطرها الناعم، ونثرت أزهارها الصغيرة كالنّجوم.‏

    سألت " رزان" دميتها الشقراء:‏

    - لماذا تأخّرت ماما؟‏

    هزّت الدمية رأسها، واحمرّ خدّاها ولم تردّ أيضاً، لأنّ الدّمى لاتعرف الإجابة عن أسئلتنا..‏

    بكت " رزان" هيء.. هيء.. هه.. هه.. هه لكنّ أحداً لم يسمع بكاءها، فهي وحيدة في الغرفة، على الأريكة جالسة، والنافذة العالية فوقها..‏

    أسندت رأسها إلى طرف الأريكة..و.. سكتت.. كانت تحدّق إلى ثوبها ، على ثنيّاته أزهار صغيرة، وفراشات ملوّنة، وخطوط مرحة زرقاء وحمراء.. طال تحديقها..والفراشات تتطاير أمام عينيها صعوداً وهبوطاً بين الخطوط والأزهار..‏

    قالت هامسة:‏

    - ليت لي جناحَيْ فراشة لأطير وأبحث عن ماما.. أين ذهبت ماما؟‏

    طارت" رزان"..‏

    صارت فوق النافذة العالية..‏

    طارت.. طارت.. صارت فوق شُجيرة الياسمين.‏

    طارت.. صارت فوق السطح .. حسبت أنّها ستفزع العصافير والحمائم. غير أنّ العصافير زقزقت على كتفيها قائلةً:‏

    - أهلاً بك يا" رزان"‏

    ثمّ رقصت حمامة صغيرة بين يديها وأخذت تهدل بصوت رخيم..‏

    - كو كو.. كوكو.. كوكو..‏

    طارت أكثر ، صارت فوق الشارع العريض، والسّاحة الفسيحة، فوق إشارات المرور، رأت الشرطي هناك بقبّعته الناصعة وكميّه الأبيضين، ينظّم عبور السيّارات والنّاس، ألاحت له بكفّيها.. طارت.. صارت فوق السوق المزدحمة والأبنية الكبيرة، رأت العمّال يدفعون العربات؛ والعرق يتصبّبُ من جباههم، رأت الموظفين في المكاتب، والموظّفات ينقرن على الآلات الكاتبة أو على أزرار الكمبيوتر.. تك.. تك تاك.. تك.. تاك.. تاك.. تك..‏

    ابتسمت وهي تراهم يليحون لها بأيديهم وراء النوافذ اللامعة..‏

    طارت، صارت فوق البساتين الخضراء، رأت المزارعين يعملون بهمّة ونشاط حتى أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم أو يردّوا على تلويحة كفّيها..‏

    طارت.. صارت فوق الحديقة القريبة من النهر، رأت طفلاً صغيراً في مثل عمرها، عرفته من خصلة شعره الأشقر على جبينه، إنه " أسعد" الولد المشاكس دائماً في روضة الأطفال، كان يمدّ لسانه الأحمر، ويشدّ أذنيه.. دَوْ.. دَدْ. دَدْ.. دَوْ.. دَدْ.. أصابعه ملوّثة بالحبر، ونصف أزرار صدريّته مقطوعة، صاح " أسعد" وهو يجري..‏

    - انظروا.. " رزان" تطير‍"!" رزان" تطير!. ثوبها الملوّن بأزهاره وفراشاته وخطوطه الزرقاء والحمراء يبدو كالمنطاد، وهي ترتفع بعيداً في سماء زرقاء، ركضت معها قطعٌ من غيوم بيض ، ركضت كالخراف إلى جانبها.. ارتفع صياح " أسعد".‏

    - خذيني معك..‏

    - لا.. لن آخذك، أنت ولد مشاكس‏

    - أرجوك.. خذيني.. سأكون عاقلاً!‏

    - ثيابك ملطّخة بالحبر.. هذا لايليق أن تذهب.‏

    ارتفع صياح الأولاد أكثر.. كانوا يردّدون مع " أسعد":‏

    - رزان.. رزان..‏

    و.. هوب.. هوب.. هب.. سقطت من فوق الأريكة. سقطت على البساط المزركش.‏

    كانت ماما أمامها.. قربّت وجهها اللطيف، وقالت:‏

    - ألم أقل لك.. لاتنامي على طرف الأريكة؟‏

    فتحت " رزان" عينيها وهمست:‏

    - كنت أبحث عنك، ياماما!..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  24. #24
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    دائاً أحبّ أن أسأل؛ أحبّ أن أعرف وأن أستفهم عن كلّ شيءٍ تقع عيني عليه..‏

    أميّ تقول:‏

    - أنت كثير الفضول، أسئلتك لاتنتهي!.‏

    جدّتي تقول أيضاً وهي تصحّح لها:‏

    - لاتقولي: إنّه فضولي، قولي: إنه يريد أن يتعلّم، ومن لايسأل لايتعلّم!‏

    ذلك الصباح ، كنت ذاهباً إلى دار جدّي، إنّها في الطرف البعيد من المدينة..‏

    الحافلة التي ركبتها كانت مزدحمة، وهناك رجل يشاركني في المقعد، كان يلاصقني تماماً، وعلى الرغم من أنّ التدخين ممنوع في الحافلة؛ لكنّه كان يدخّن!!‏

    لفافة طويلة من التّبغ في فمه، ينفث منها دخاناً كريهاً ومزعجاً، وضعت كفّي على أنفي، وأدرت وجهي تفادياً لرائحتها المنفّرة.. والرجل مستمرّ في نفث الدّخان غير مبالٍ بشيءٍ.‏

    شعرت بالغيظ، تململت في جلستي ، تمنّيت أن يصعد مفتّش الحافلات في تلك اللحظة، وان يعاقبه بغرامة مالية، كانت هناك ورقة في صدر حافلة الركاّب تنبّه إلى ذلك ، غير أنّ الرجل لم يكن يلتفت إليها، فقط كان ينفث دخان لفافته مثل قاطرة قديمة في محطّة!‏

    لقد اسرعت بالنزول قبل أن أصل موقفي الذي يوصلني إلى دار جدّي، كنت أريد أن أتخلّص من هذا الرجل المدخّن، ومن هذه الحافلة المزعجة المزدحمة، أريد أن أستنشق هواءً نظيفاً لايعكّره شيء!..‏

    وفي دار جدّي، أحسست بالسعادة، طالعتني نسيمات ناعمة، هبّت لطيفة هادئة، صافحتْ وجهي وأنا تحت عريشة العنب الممتدّة من البوابة حتى المصطبة الحجريّة..‏

    قلت لجدّي مستفهماً:‏

    - ما حكاية هذه اللفافة التي يتعلّق بها بعض الناس يا جدّي؟!‏

    ابتسم بهدوء، ثم ربّت على كتفي قائلاً:‏

    - هذه الّلفافة لها حكاية طريفة.. بدأت في إحدى المدن الصّغيرة، مدينة جميلة، هادئة، تقع في وسط سهول وجبال وغابات، هواؤها منعش ، وجوّها لطيف، أهلها يعملون بهمّة ونشاط، وجوههم مورّدة تنطق بالصحّة والعافية، ,اجسامهم قوية. ينهضون مع خيوط الفجر الأولى ، ينطلقون إلى حقولهم العامرة، وأعمالهم المزدهرة..‏

    جاءهم ذات يوم تاجر غريب.. يبدو أنّه انتهز فرصة ازدحام النّاس في السّوق، كان يحمل كيساً من التّبغ.‏

    وفي ساحة السّوق، صنع لنفسه لفافة تبغ غليظة، ثمّ أشعلها، وبدأ يدخّن أمام دهشة الناس، كان ينادي:‏

    - تعالوا، هذا تبغ، له مذاقٌ لذيذٌ، تعالوا..‏

    دخّنوا، وستدخل الفرحة إلى قلوبكم، انظروا، إنّني أصنع سُحُباً صغيرة تتوّج رأسي.. هل تستطيعون أن تفعلوا ذلك مثلي!..‏

    لم يكن أحد من أهل المدينة الصغيرة. يعرف هذا التبغ!.. لم يكن هناك مَنْ رأى هذه النبتة الغريبة!!.‏

    اقترب بعض الشبّان ، تناولوا اللفافة المشتعلة، قلّدوا الرجل التاجر، غير أنّهم كانوا ينفثون دخاناًو.. يسعلون.. أح.. أح.. أح.. يضعون أكفهم على صدورهم وهم يسعلون أح.. أح.. أح.. ثم ينصرفون متذمّرين.. ساخطين، وهم يقولون:‏

    - لم يبق إلاّ أن ندفع نقوداً حتى نختنق بها!!..‏

    ...................‏

    بُحّ صوتُ التاجر وهوينادي:‏

    -سأبيع هذا التبغ بالثمن الذي اشتريته به، لن أربح شيئاً.. تعالوا.. دخّنوا، تعالوا.. دخّنوا!‏

    ولم يأتِ مشترٍ واحد؛ والكيس في مكانه، لم ينقص شيئاً!.‏

    لكنّ التاجر لم ييأس .. فقد أخذ يصرخ هذه المرّة، وهو يحلف بأغلظ الأيمان:‏

    - منْ يدخّنُ منْ تبغي لايعضّه كلب!.‏

    من يدخّن منْ تبغي لايسرق بيته سارق..‏

    من يدخّن مِنْ تبغي لايشيخ أبداً..‏

    أنا أقسم على ذلك.. أقسم.. أقسم!!‏

    وحين سمع الناس ما سمعوا، ورأوا أنّ التّاجر يمعن في امتداح بضاعته، أقبلوا عليه يشترون، ويشترون حتى فرغ الكيس، وانصرف التاجر ظافراً!..‏

    .........‏

    مرّت سنة كاملة، ورجال المدينة الجميلة قد تغيّروا.. بُحّت أصواتهم ، وشحبت وجوههم، فترت هّمتهم، وقلّ نشاطهم ، كانوا يسعلون إذا مشوا، ويسعلون إذا وقفوا، يلهثون في الطرقات، هه.. هه.. آه.. هه.. لقد تغيّروا كثيراً!!‏

    وأبصر واحد من أهل المدينة ، ذلك التاجر في السّوق، فأمسك به يجرّه من ثوبه، كان يريد أن يفضحه لأنّه خدع الناس، وحلف أيماناً كاذبة.. قال له:‏

    - أيّها التاجر الظالم، أيّ أذى ألحقته بنا!!‏

    انظر حولك؟!.. ثم كيف تقسم وأنت تكذب!!‏

    قال التاجر بخبث:‏

    - لم يكن قسمي كذباً .. أتعرف لماذا لايعضّ الكلب مدخّناً لأنّه سيكون متوكئاً على عصا. والكلب يخاف من العصا وحامل العصا... ولماذا لايسرق داره سارق لأنّ سعال المدخّن لاينقطع طوال الليل، فيظنّ أنه مستيقظ، أمّا لماذا لايشيخ، فالمدخّن لن يعيش حتى الشيخوخة!!‏

    .........‏

    ...............‏

    وابتسم جدّي، حين وصل إلى ختام حكايته، ابتسمتُ مثله ابتسامةً واثقةً، وقلتُ بحزم:‏

    -مَنْ لايدخّنُ يظلَّ قوي الجسم، لايعضّه كلبٌ، ولايجترئُ عليه سارقٌ ولا يشيخ!. بلْ يحيا عمره مبتهجاً سعيداً..‏

    شدّ على يدي ، وقال:‏

    - ومَنْ يسألْ يستفدْ ويتعلّم!..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  25. #25
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    هذه حارتنا الصغيرة، هذه حارة النحّاسين، وهذا أنا أقف عند التلّة هناك، أنتظر رفاقي وأصدقائي، أدلك كفيّ وأنتظر، فالُّلعبةُ لابدّ أن تبدأ، وها هوذا حسام وأحمد وسمير وبشار قد جاؤوا، إنهم يركضون نحوي، تتشابك أيادينا، تتعانق أصابعنا المنمنمة، تطفح وجوهنا المدوّرة بالمحبّة، تتألّق عيوننا، وتنطلق أصواتنا، وها نحن نمارس لعبتنا المفضّلة نندفع إلى الّلعب ونحن لانعرف التعب، ولعبتنا المفضّلة العجيبة سميناها" دار المدار"، وهي ليست عجيبة فقط، بل خطرة أيضاً، لأنها لاتخلو من متعة، وهي أيضاً لاتخلو من قسوة وخشونة وعنف!..‏

    كلّ طفل يضع حزامه الجلديّ في وسط الساحة التي نلعب فيها ، ومَنْ يقع عليه الدّورُ يمسك بطرف حبلٍ مثبّت في الأرض بوتدٍ، ويدور ضمن دائرة ضيّقة، يحمي أحزمته الجلديّة، والأطفال ينهشون أطراف الدائرة، كلّ واحد يريد أن يستردّ حزامه، وندور، ندور، الساحة كلّها تدور، التلّة نفسها تدور، ترتفع صيحاتنا ، وتشقّ اصواتنا عنان السماء، تظهر رشاقتنا في القفز والشقلبة تزداد سرعتنا ونحن نهتف:‏

    - دارَ المدارُ.. دَارْ..‏

    الحارة كلُّها، بأولادها وأطفالها عند التلّة يتحلّقون، واللعبة حامية، والمعركة بدأت ، ونحن نلهث وراء الفرح، تتواثب قلوبنا في صدورنا، وهتافُنا لايتوقّف:‏

    - دَارْ.. دَارْ .. دَارْ..‏

    و.. وقع الدّور عليّ، في إحدى المرّات، وجدت نفسي وسط الساحة ، تحت أعين الأطفال جميعاً في موقع المواجهة، وأنا أحمي الأحزمة، يدي الصغيرة ممسكة بالحبل، وعيناي تدوران في كلّ اتجاه، والأيدي ايدي رفاقي بدأت تنوشني من كلّ طرف، والّلعبة بدأت ، وعليّ أن أثبتَ وأُظْهِرَ مَقْدرتَي في هذه الّلُعْبةِ الخَطِرةِ...‏

    المعركةُ دارت، والحارة كلّها عرفت أنني في منطقة الخطر، قلبي يكاد يقفز في صدري، كيف أدفع هذه الأيدي؟ كيف أصمد أمام هجمات الأطفال من حولي؟ كيف يمكنني أن أردّها عن انتزاع الأحزمة؟ يالها من لحظات صعبة!.. لكنّني كنت أدور وسط هتافات الأطفال، العالية، أدور.. وأدور، أحمي الأحزمة، وأصدّ الهجوم، لقد سقطت ، هذه المرّة، في الشبكة، سقطت مثل عصفور صغير، الدائرة بدأت تضيق من حولي ، ياإلهي!.. لقد خطف أحد الأطفال حزامه، إنه يلوّح به فوق رأسه، دخلتِ الّلعبةُ، الآن، مرحلةً صَعبةً.. أنّ الحزام سيطير باتجاهي، ولابدّ من أن أتلقّى لسعاته السريعة الخاطفة بقلب شجاع ونفس راضية، وأن أدافع عن بقية الأحزمة!..‏

    يالها من لعبة عنيفة! كنت أصغر من أن أتحمّلها.. تصوّروا.. إنني طفل بطول عقلة الإصبع، يلعب لعبة" دارَ المدار"، ويقف ليستقبل الحزام الجلديّ يلسعه لسعاً لاهباً على ظهره أو كتفه أوساقه.. ربّما تطول اللعبة، ربّما تصير الأحزمة كلُّها في أيدي الأطفال، فماذا تكون النتيجة؟...أيّ " فلقة" ساخنة ستكون من نصيبي؟ ها أنذا أدور وعيناي زائغتان والصّخب يتعاظم من حولي ، والضجيج يملأ فضاء الساحة..‏

    ومن راس الحارة، أطلّ وجه أمي..‏

    كنت أراها هناك. عيناها تبحثان عن ولد صغير شقيّ، ولد بطول " عقلة الإصبع"، لم يكن هذا الولد سواي، لقد رأتني مباشرة، وشعرت عندئذ أنني أقوى من الجميع، شعرت بأنّ قوّة هائلة تدفعني إلى أن أصمد وأن أقاوم الهجمات العنيفة، وأن أزداد تصميماً على حماية الأحزمة، والدائرة ، والسّاحة والتلّة، بل الحارة كلّها!..‏

    كنت أدور، هذه المرة، بسرعة أكبر، لم تعد لسعات أيّ حزام تهمّني، لم أكن أتألّم، قوّتي صارت خارقة، ,أنا أستهين بكلّ هجوم، وتقدّمت أمّي، اقتربت أكثر، وبدون انتظار، انفرط عقد الأطفال من حولي، تفرّقوا مبتعدين، وهم يرون أمّي قد وقفت في ساحة اللعب صامتة، كانت تنظر إليّ وحدي، كأنّما تؤنّبني بصمتها، تلومني على لعبي الأحمق!..‏

    توقّفت الأيدي عن المناوشة، خفتت الأصوات ثم ساد هدوء، أشارت إليّ أن أقترب، اترك هذه الّلعبة السخيفة، وعد إلى البيت!..‏

    تعثّرت في خطواتي، هذا أنا أنسحب من اللعبة، وهذه أمي أنقذتني في اللحظة المناسبة، هل كنت فرحاً أم ماذا؟!‏

    لقد نجوتُ .. حلّت أمي المشكلة، ولن أصير أضحوكة!‏

    ما الذي قاله الأطفال في الحارة بعدئذ؟ لست أدري، لأنني انصرفت عن كلّ الألعاب السّخيفةِ وشُغلت بدروسي، صارت الكتب والدفاتر والأقلام أصدقائي، ومن وجه أمّي ، من ابتسامتها الحنون ومن عينيها الحلوتين الهادئتين، استلهم نجاحي وتفوّقي، ومن صوتها الدافئ، ودعائها الصّامت، أتابع عملي، وأسير سعيداً مطمئنّاً.. سَلمتِ ياأمي.. .....‏

    كل عام أنت بخير..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  26. #26
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان في الصفّ الذي دخلته، هذه المرّة، تلاميذ مجتهدون، وبارعون في كلّ شيء، قال لي المشرف وهو يربّت على كتفي:‏

    - ستكون هنا، وهذه أفضل شعبة في المدرسة!‏

    صمّمتُ أن أكون متميّزاً في دراستي، عزمت على أن أحقّقَ نجاحاً باهراً؛ أفرح أهلي وأجعل أبي يقول أمام زملائه:‏

    - انظروا ولدي، إنّه يتقدّم على زملائه في المدرسة!..‏

    .........................‏

    في البيت، كانت لي طاولة صغيرة، أضع فوقها كتبي ودفاتري، وقد اختارت لها أمّي موقعاً قريباً من النّافذة، وحين أجلس إليها ، أحسّ بسعادة لاتوصف، النافذة العريضة تطلّ على حديقة الجيران، والعصافير لاتغادر الشرفة، تنتقل من الإفريز الحجريّ إلى الشجيرات الخضراء، تختفي بين أغصانها وأوراقها، ثم لاتلبث أن تعود وقد ملأت الفضاء بزقزقتها، كنت أسلّي نفسي بمراقبتها، أشرد عن كتبي قليلاً ثمّ أعود إليها،.. أمّا أخي الصّغير فلم يكن همّه إلاّ الّلعب.. يدحرج كرته الملوّنة في الصّالة، ويركض وراءها من غرفة إلى غرفة، كنت أقول:‏

    - هو صغيرٌ، لماذا لايأخذُ نصيبه من الّلعب؟ لقد نلتُ حظّاً وافراً، لعبتُ ما فيه الكفاية، وها أنذا أدرس، ولكنْ لا بأس من أخذِ استراحةٍ..‏

    استراحة قصيرة من عناء الدّراسة!.‏

    جذبتني الكرة الملوّنة، لم أستطعْ مقاومة إغرائها. أراها أمامي. بين يديّ أخي فأجري معه، نتبادل قذفها هنا وهناك، أدحرجها على حافة الشرفة، ثمّ ألتقطها ببراعة، وأخي يصفّق إعجاباً، وأنا أعيدُ دحرجتها . مرةً تلو المرّة، وبلهفة، أحتضنها بشوق، أنجذبُ إليها، وأردّد:‏

    - استراحة قصيرة، استراحة قصيرة؛ ثم أعود إلى كتبي"!!"‏

    وما بين شرودي أمام النّافذة، ومراقبتي لأسراب العصافير، وصخب السنونو، وكركرة ضحكات أخي الصّغير، والكرة المتدحرجة فوق حافة الشرفة الحجرّية؛ تنقضي الاستراحة ثمّ تتبعها استراحات!‏

    .........‏

    لاحظتْ أميّ ذلكَ.. نبّهتني وقالت مؤنّبةً:‏

    - ما أكثر لعبكَ في البيت! أنت لاتدرسُ .. أنت تنسى نفسكَ.. تنسى أنّ هناكَ دروساً لابدَّ منْ قراءتها، ومعلوماتٍ لابدّ منْ حفظها، ومعَ ذلك تلعبُ، وتظلُّ تلعبُ!!‏

    تظاهرتُ بأنّني أدرسُ، بعثرتُ كتبي فوقَ الطاولة،و.. شردتُ.. الوقتُ ما زالَ طويلاً، وسأعوّض كلّ شيء في الأيام المقبلة، أمامي الامتحانُ، وسأثبت للجميع مقدرتي وذكائي!‏

    .........‏

    على الرغم من أنّ أبي اشترى من أجلي ساعة ذاتَ منبّهٍ قويّ، يوقظني في السادسة صباحاً، وعلى الرغم من أنّ جدّتي تردّد دائماً:‏

    - البركة في البكور..‏

    وعلى الرغم من أنّ ديك الجيران ذا الحنجرة القوية يصيح كلّ صباح:‏

    - كوكوكوكو.. كي كي كي .. كي‏

    لكنّني لم أستيقظ باكراً،... النّوم لذيذ، ماأحلاه وما أجمل أن أستسلم إليه!.. أسكت صوت المنبّهِ مباشرةً، وأردّد مغتاظاً لدى سماعي صوت الدّيك:‏

    -كان يجب أن يقطعوا رأسك!‏

    وتنسلّ خيوطُ الشمس عبر النّافذة، تتراقص أشعتها مثلما تتراقصُ الكلمات فوق دفاتري وكتبي، ولكنّني لا أستيقظ باكراً..‏

    وركضتِ الدقائقُ ، ركضتِ السّاعاتُ، ركضتِ الأيامُ وأنا ما زلت اقول:‏

    - هناك فسحةٌ لأدرس، وأدرس وسأكون متفوّقاً.‏

    بنيتُ قصوراً على الماء، وزملائي في المدرسة صاروا يتقدّمونني، والامتحان يقترب، يدقُّ الأبواب.. وأنا تسحرني الكرةُ الملوّنة، وزقزقة العصافير ، والنافذة العريضة ، واللعب والشّرود، وإحصاءُ عددِ بلاطات الغرفة، والركضُ وراء أخي الصّغير؛ أعرضُ عليه مهارتي في دحرجة الكرة على حافّة الشرفة والتقاطها قبل أن تسقط ..كنت ضعيف الإرادة في التّركيز، وراء طاولتي الصّغيرة، وشعرتُ أنّ أمّي أصابها المللُ من كثرةِ التنبيهِ والتأنيبِ.. شعرت أنّ كتبي نفسها وأوراقي وأقلامي تنظر إليّ باستغراب ونفور، فأنا لم أعد صديقها المفضل. وهي لم تعد تسليتي وهدفي"!!"‏

    ...........‏

    في أول يوم من أيام الامتحان، سلّمتُ ورقةَ الإجابة، كانت أصابعي ترتجفُ، ووجهي قد أصابهُ الشحوبُ، لم أكن أعرفُ ماذا أكتب! فالأسئلةُ أصعبُ مما توقّعت.. ورأيت وجوه زملائي وأصدقائي باسمة، وهادئةً...‏

    كانوا يخرجون من مقاعدهم وفي نظراتهم بريقُ الثّقة والطّموح، والأمل.. ولست أدري كيف تذكّرتُ تلك اللحظةَ حكاية الأرنب والسلحفاة، كان أستاذنا يحكيها لنا.. ما زلت أرى أمام عينيّ ذلك الأرنب المغرورَ وهو يستلقي تحت الشجرة، ساخراً من السلحفاة البطيئة التي تدبّ إلى نهاية السّباق، كان يريدُ أن ينامَ ويرتاحَ، لأنّه بقفزة واحدة يصلُ إلى الهدف فلماذا يتعبُ نفسه؟ وماذا كانت النتيجة؟..‏

    السلحفاة الدؤوب التي لم تتوقّف لحظةً وصلت إلى خطّ النّهاية، وانتصرت.. أمّا الأرنب فلا يزال يغطّ في أحلامه...‏

    ترى هل كنتُ أرنباً مغروراً؟...‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  27. #27
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    في الصّباح.. نخرج من البيت ، أنا وأخوتي، إلى المدرسة، وعلى الرغم من أنّ المدرسة قريبة، لكنّنا نبكّر في الذّهاب إليها..‏

    في الصباح .. نترك البيت، والفوضى تشمل كلّ شيء.. الطاولة في غرفة الجلوس غير مرتّبة، الكراسي ليست في مكانها، المساند مبعثرة هنا وهناك كتبنا، أقلامنا، تحت المنضدة، بين الكراسي، خلف المكتبة الصغيرة ، ومع ذلك، أمّي لاتثور..ولا تغضب!.نسمعها تقول هامسةً:‏

    -لابأس، أولادي ما يزالون صغاراً، سيكبرون..نعم.. سيكبرون، وعندئذ يساعدونني، ويرتّبون البيت معي!..تسرع أمّي إلى غرفة جلوسنا، تعيد كلّ شيء إلى موضعه، الكتب المبعثرة تُرتِّب في المكتبة الصّغيرة، الطاولة تتوسّط الغرفة، وغطاؤها الورديّ النظيف يستريح فوقها بهدوء، المساند رجعت إلى أماكنها، الكراسي اصطفت من جديد، بعد أن تفرّقت في زوايا الغرفة، حتى أقلامنا المرتجفة استعادت فرحتها، وهي تجتمع بعد رحلة الفوضى اليومية!...‏

    وفي رشاقة ومرح، رفعت المزهرية رأسها، وقد ازدانت بالأزهار البيضاء والحمراء والمنضدة هناك نظيفة، لا أثر للغبار فوقها، والزجاج يلمع، والغرفة كلّها غرقت في ضوء حالم!..‏

    كلّ الأشياء رقصتْ من السعادة، فلمسات أمّي السحرية، أحالت الغرفة إلى جنّة مرتّبة، أنيقة، كلّ الأشياء كانت تهمس برقّة:‏

    - شكراً.. شكراً لهاتين الكفّين الحانيتين!..‏

    ................‏

    في الظهيرة..‏

    نعود إلى البيت..‏

    تقول أختي سلمى:‏

    - أمّي، أسعد يسعل!‏

    تهزّ أمي رأسها، تردّ خصلة شعرها عن جبينها تظهر لهفتها وهي تسرع.. تتناول شراباً وملعقة تهمس لأسعد:‏

    - لابأس.. تعال..‏

    تمدّ كفّاً حانية، تمسح رأسه، وتقول:‏

    - تناولْ هذا.. خذ ملعقتين، فقط، وسيتوقّف السعال!..‏

    يأتي أحمد..‏

    - أمّي.. تلمّسي، جبيني!.‏

    تقترب أمّي.. كفّها يتحسّس جبين أحمد..‏

    - ياه..هناك حرارة!. سأضع لكَ كمّادات!..‏

    لاتنزعجْ.. ستزول بسرعة!..‏

    تبكي صفاء.. تشير إلى قدمها الصغيرة..‏

    - هُنا.. هُنا!..‏

    تنحني أمّي ، تسأل:‏

    - أين.. أين!‏

    تمسّد بأصابعها الناعمة قدم صفاء، تظلّ تمسّد وهي تبتسم.. حتى تجعلَ دموعها تختفي..‏

    ..........‏

    بعد الظهر..‏

    تفاجئنا أمّي بما صنعتْ كفّاها من أطايب الطّعام، تهتف بنا:‏

    - هيّا.. ذوقوا، ياصغاري، ذوقوا!..‏

    أمّي ماهرة،... ماهرة في كلِّ ما تقدّمُه لنا، ونحن نحبّ طعامها وحلواها..‏

    ........‏

    عند المساء..‏

    تهتزّ أصابع أختي وهي تمسك بالقلم.. إنّها تتعثّر في كتابة الوظائف، تجلس أمي قربها، تقول بلطف:‏

    - ليس هكذا .. لاتضغطي على الورق. تتمزّق الصفحة إذا ضغطت عليها..‏

    ثم تأخذ الكتاب، وتسأل:‏

    - هل حفظتم هذا النشيد؟ منْ يسمعني أولاً؛ نتحلق حول أمّي.. نفتح دفاترنا، نعرض عليها ما كتبنا، نقلّب صفحات وصفحات، وأمّي تصغي إلينا ، تبتسم مرة ، وتعبس مرّة، وكفّاها يشيران هنا وهناك، كفّاها يوجّهان ويرشدان، وعيناها بالحبّ والحنان تفيضان.. وقبل أن ننام ، ننحني أمامها، نقبّل كفّيها الحانتين، قبل أن تنشغلا بعمل آخر، وننطلق إلى النوم هانئين سعداء..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  28. #28
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    انظروا.. هذا هو السوق الطويل، ونحن التلاميذ الصّغار نجتازه، منطلقين إلى مدرستنا، مدرسة" نور الدين الشهيد"، لانتوقّف أمام دكان، ولانتلهّى أمام بائع، كنّا نسرع في الوصول إلى مدرستنا التي نحبّها، لم يكن هنك مدرسة مثلها!..

    باب عريض يفتح كلّ صباح لاستقبالنا، باب عالٍ كبير يتّسع لدخول عربة مع حصان يجرّها، ومع ذلك فهو باب لمدرستنا القديمة، والتلاميذ يدخلون بنظام، قبل أن يحين الدوام بنصف ساعة ليس هناك من يتأخّر.. ومنْ يجرؤُ على ذلك؟!

    مَنْ يستطيع أن يتحدّى عصا الأستاذ" صفا"؟! وأيّة عصا كان يرفعها أمام التلاميذ؟ وهو يلوّح بها، والجرس يتابع رنينه باكراً ، جرس مدرستنا يُسمع في الساحة كلّها ، وربّما يصل صوته إلى السوق ، جرس قديم له إيقاع خاص:

    - ترن ترن..رن..ترن ترن .. رن...

    و" أبو الخير" الآذن، بطربوشه الأحمر، وقامته الطويلة، ونظّارته السميكة التي تكشف عن عينين طيبتين، تحملان مودّة للتلاميذ الصّغار، أبو الخير يحثّ الأطفال على الركض إلى الصفوف ، قبل أن تدركهم عصا الأستاذ " صفا" ، ذات العقد المرعبة، مازالت الأكفّ الصغيرة تتذكّر لسعاتها، ما زالت الأصابع تعرف طعمها وهي ترتجف، والأستاذ" صفا" صاحب جدول الضّرب لايتوقّف عن طرح أسئلته ، ولسعنا بعصاه لسعاً سريعاً خاطفاً، العصا تهوي على الأكفّ المحمرّة، لها صوت يختلف عن غيره من الأصوات، كأنّه صوت الريح الشديدة..

    ف.. و.. و.. ف.. و.. و.. والتلميذ المقصّر في دروسه يصرخ:

    - والله أحفظ..

    - والله لن أنسى..

    وجدول الضّرب يتراقص أمام عيوننا ، تتراقص الأرقام، تتراقص الحروف، تختلط مع بعضها، ونحن التلاميذ نشعر بالقلق والرهبة، ماذا يمكن أن نفعل؟ لقد صرنا في الصّف الثاني، وهذه الأعداد تركض ركضاً متواصلاً، ستة في خمسة، تسعة في سبعة، أربعة في ثمانية، خيول تتسابق في ميدان سباق محموم، والتلاميذ يلهثون وراءها لايستطيعون فهمها، لايعرفون من أين أتت هذه الارقام والأعداد الكثيرة المتداخلة، ما معنى خمسة في تسعة، وثمانية في أربعة، وما شأننا- نحن الصّغار- بهذه الأرقام والإشارات ؟ من الذي وضعها في طريقنا؟ من الذي قطع علينا أحلامنا وأخيلتنا.. أرقام وأرقام وأعداد لاندري من أين جاءت ، ولا كيف وصلت، وتمدّدت على الألواح الخشبية، وانتقلت إلى حقائبنا، بدأت تناكدنا، تمطّ رؤوسها وأنوفها ، ترقّص أمامنا أذيالها،تتسلق صفحات دفاترنا ، تنام معنا في فراشنا أو تقفز على وسائدنا، أرقام مضحكة مبكية، لاترتبط برسوم، ولاتتعلّق بألوان،...

    في الصف الأول، الذي ودّعناه، كان الأستاذ " محمّد" يعلّمنا درس الحساب مع دروس الرياضة وحصص الموسيقى والأناشيد، فما بال الأستاذ " صفا" يلجأ إلى هذه الطريقة.. أسئلته كزخّ المطر، وعصاه لاتسامح مَنْ يخطىء في الجواب!..

    في الصّف الأول كانت حناجرنا تُبحّ من المرح والضّحك والفكاهة والتمثيل في الدروس.. كنّا ننشد دروس الحساب كالبلابل..



    أمّي وأبي

    كانا اثنين


    وأنا وأخي

    جئنا اثنين


    دخلتْ أختي

    همستْ همسهْ


    إنْ تجمعنا

    ترنا خمسهْ



    ثم نقفز من مقاعدنا، ونكتب العدد" خمسة"

    نرسمه بالألوان، ونشكّله بالمعجون، نأتي بحبّات الفاصولياء، نبدأ بالعدّ ، نتسابق ، نملأ أكياساً قماشية بيضاً، هذا الكيس فيه عشرون حبّة من الفاصولياء. وهذا فيه عشر حبّات..



    كفّي اليمنى

    فيها خمسٌ


    كفّي اليسرى

    فيها خمسٌ


    فاجمع هذي

    واجمعْ هذي


    تصبح عشراً

    ياأستاذي



    لكنّ الأستاذ " صفا" صاحب جدول الضرب يختلف، صوته يختلف ، حديثه يختلف، يلوّح لنا بالعصا فنحسب لها حساباً، صار جدول الضرب في أول السنة الدراسية شغلنا الشاغل، ولم ينقضِ شهران حتى حفظناه غيباً، كما نحفظ أسماءنا لم نكن نلجأ إلاّ لأصابعنا، أصابعنا التي التهبت من لسعات العصا، لا أحد يمكنه أن ينسى منظرنا نحن تلاميذ الصّف الثاني، بعد مرور شهرين من بدء الدراسة لا أحد يستطيع أن يكتم شهقته وهو يرى تلاميذ الصّف الثاني، وقد اصطفوا ثلاثة.. ثلاثة.. رتلاً رتلاً.. لقد حفظنا جدول الضّرب عن ظهر قلب، استظهرناه من اليمين إلى الشمال، ومن الشمال إلى اليمين، ومن فوق إلى تحت، ومن تحت إلى فوق، وفي كل الاتجاهات، والأستاذ " صفا" يحاول أن يربك هذا، أو يهزّ العصا المخيفة في وجه ذاك، ولكنّ التلاميذ الصّغار قهروا هذه المرّة العصا، قهروا الأرقام والأعداد، وحفظوا الجدول العتيد، وانتصروا على ستة في سبعة، وثمانية في تسعة، كانت أجوبتهم كالمطر أيضاً، سريعة متلاحقة،...

    لقد صمّمنا- نحن الأطفال- أن نخرج من الامتحان مرفوعي الجبين، عزمنا على أن نقف ورؤوسنا عالية،... لم يكن أحدٌ أسعد منّا..

    الفرحة حملتنا على جناحيها، طرنا معها ، طرنا من السعادة، كتبوا أسماءنا في لوحة الشرف المدرسية، أعطوا كلّ واحد استحساناً، الأساتذة كلّهم شملونا بمحبّتهم، حتى الأستاذ " صفا" .. لقد اكتسحنا جدول الضرب، اقتحمنا حصونه وقلاعه، عرفنا أسراره وخفاياه، لأننا محونا كلمة: صعب.. مستحيل ثم كان، في نهاية السنة، أن ودّعنا الاستاذ " صفا" وداعاً مؤثراً، كنّا شاكرين له طريقته المختلفة، وحديثه المختلف، وودّعنا عصاه بالقبلات، لأنّها لم تعد تخيفنا..ولم نعد نرتجف منها.. لم نعد صغاراً.. لقد نجحنا..

    واليوم- ما زلنا- نتذكّر حكاياتنا مع أساتذتنا القدامى، وجدول الضرب..
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  29. #29
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    هذا أنا، أيّها الأصدقاء، صرت في العاشرة من عمري، أحبّ مثلكم الشمس والأشجار والأزهار والعصافير المغرّدة.. أحبّ أمي وأبي وإخوتي . وأهلي وجيراني.. أحبّ مدرستي وأساتذتي.. أحمل حقيبتي الجلدية، وأنطلق باكراً إليها.. أصدقائي هناك ينتظرونني، وسنقضي أجمل الأوقات، أنا أعاملهم بلطف ومودّة، وهم كذلك، الأصدقاء يتعاملون دائماً بلطف ومحبّة ومودّة وتهذيب..‏

    وفي يوم العطلة، ألعب معهم، نركض، نقفز.. نتبارى في الوثب والجري، والتقاط الكرة وهي تطير في الفضاء..‏

    لكنني، اليوم ، حزين..‏

    هل تعرفون لماذا؟‍‏

    اليوم، هو يوم الجمعة، يوم العطلة الأسبوعية، وأنا لاأستطيع الّلعب مع أصدقائي، لأنّ الجو ماطر،... منذ الصّباح الباكر ، والسماء ملبّدة بالغيوم الداكنة والمطر ينهمر بغزارة ، ولن أتمكّن من الخروج إلى اللعب‏

    وقفتُ خلف النافذة، في غرفة الجلوس بدأت أراقب هطول المطر.. كانت حبّاته الكبيرة تنقر زجاج النافذة ، بلطف أولاً.. تب.. تب.. تب.. تبتب، تبتب، تب.. تب.. ثمّ ازدادت.. ياه.. كأنها حبال تصل الأرض بالسماء، وازدادت أكثر حتى خلتُ أنّ سطولاً تندلق..وش..وش.. وش.. مطر غزير.. والأشجار بدأت تغتسل، والطرقات تستحمّ، لقد صارت نظيفة لامعة!..‏

    ولم تمض ساعة أخرى ، حتى انقطع المطر..‏

    وشاهدت مجموعة من الألوان الجميلة الشفّافة، كأنها الجسر المعلّق،... دُهشت، ولم أعرف ما الذي يتسلّقُ السّماءِ، وينتصب في وسطها.. سألت أمّي:‏

    - ما هذا الذي يشبه الجسر.. جسر النّهر الحجريّ؟!‏

    مسحتْ أمي بحنان فوق رأسي، وقالتْ:‏

    - إنّه قوس قزح!‏

    سألت ثانيةً:‏

    - ومن بنى هذا القوس؟‏

    ضحكت أمي. لقد أدهشها سؤالي، ضمتّني إليها، وبدأت تشرح، كيف يتشكّل قوس قزح:‏

    - انظر. لقد طلعت الشمس، وتلك أشعتها تنعكس على قطرات المطر.. والضوء الأبيض يتحلّل إلى طَيْفهِ الّلوني،.. انظر ، هذه ألوان الطيف من الأعلى بدأت تتدرّج.. اللون الأحمر، والبرتقالي، والأصفر والأخضر، والأزرق، والنّيلي، والبنفسجي.. هتفتُ بفرح:‏

    - سبعة ألوان جميلة، ياأمي ، سبعة ألوان!..‏

    هزّت رأسها ، وهمستْ:‏

    -ما أروع جمال الطبيعة.. ما أروع ما فيها من رقّةٍ وجمال!..‏

    ...........‏

    ......................‏

    لقد أعجبني قوس قزح، أعجبني كثيراً حتى إنّني قصصت دائرةً من ورقٍ مقوّى' قسّمتها إلى سبعة قطاعات، هي ألوان الطّيف، لوّنتها بدقّة، ثم ألصقتها على بكرة خيوط فارغة لأجعلها تدور، بعد أن ثقبت بقلم الرصاص مركز المحور.. هاهي ذي تدور.. تندمج الألوان، وتدور.. ألوان الطيف الشفّافة تدور.. وحين تزيد سرعتها تبدو الدائرة ذات لون أبيض.. ما أجمل هذا!!..‏

    كانت لعبة جديدة من ألعابي، سوف أفاجئ بها أصدقائي وأصحابي..‏

    .....................‏

    لقد حبسني المطر ذلك النهار..‏

    لكنني استفدت كثيراً، فأنا قمت بعمل نافع.. وما زلت أفكّر بأن أكتشف شيئاً جديداً..ربّما- في المرة القادمة- أتسلّق قوس قزح.. وأعرف ما يدهش أكثر.. ربّما..
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  30. #30
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    العيدُ يدقّ الأبوابَ، ويهمس:‏

    - هيّا، ياأطفال، أنا قادم، يومان فقط، وأحلّ ضيفاً عليكم..‏

    نتهيّأ لقدومه، تتهيأ جدّتي أم الطّاهر، يتهّيأ جيراننا، تتهيّأ حارتنا لاستقباله كما يليق الاستقبال..‏

    البيوت في الحارة، كلّ البيوت تستيقظ باكراً، والأطفال ينهضون مع خيوط الفجر الأولى، وأهل الحارة يهرعون إلى فرن النحّاسين، يصلّون الفجر في جامع الأشقر، ثم يقصدون الفرن، يأخذون دوراً عند" أبي صبحي".. والرجل يبلّ قلم ( الكوبيا ) بريقه ، ويسجل الأسماء بخطٍّ مرتعش وحروف متشابكة ؛ لايفكُّ ارتباطها ولايعرف تناثر نقاطها غيرُ أبي صبحي نفسه..‏

    ورقة مدعوكة، مقطوعة من دفتر مدرسيّ مسطّر لكنّها- بالنسبة إلينا- ليست ورقة عادية، فهي مطرّزةٌ بالألقاب والأسماء والتوصيات:‏

    - ابو أحمد.. فطائر بالجوز‏

    أم عادل: هريسة بالفستق الحلبي..‏

    أبو علي كرشة .. أقراص مرشوشة بالسمسم أم محمود الطبلة.. صينية صغيرة واحدة..‏

    سعيد الفهمان.. صينية كبيرة..‏

    زنّوبة...‏

    أمّا جدّتي أم الطّاهر فاسمها لابدّ أن يكون في رأس الورقة!.‏

    ..........‏

    قبقابي يوقظُ النائمين في الحارة، أقفز من الدار إلى الفرن، أقطع الدرجات الحجرية، أجتاز البوابة المعتمة، والزّقاق الصّغير، تتفرّق القطط، تركض بعيدة وقد أزعجها قرع القبقاب، أصير أمام الفرن ، رائحة الخبز الأسمر الطّازج تستقبلني، أرغفةٌ منفوخة كالأقمار المعلّقة على السطوح ، تذوب في الأفواه كما تذوب" غزّولة البنات"..‏

    صوان نحاسية ذات أطرافٍ مدروزة تدخل الفرن أو تخرج منه، وأمام الباب، هناك، يزدحم رجال بحطّاتٍ وقنابيز يحجزون دوراً، نساء قادمات من أطراف الحارة، يجئن مبكّراتٍ ، على رؤوسهنّ أطباق القش الملوّنة، وقد عقدْن المناديل المزركشة وفي عيونهنّ الواسعة لهفة وانتظار.. ترى هل يسبْقن غيرهنّ، ويأخذْنَ أقراص العيد قُبَيل أذان الظّهر‏

    ................‏

    جدّتي تمسح رأسي بكفّها الحانية، وتهمس لي:‏

    - لايُفرحُ قلبي غيرك.. هيّا.. قمْ.. وخذْ دَوْراً عند أبي صبحي.. كعك العيد- في الصّواني- جاهز..‏

    ............‏

    هذا أنا، أوّل من وصل..‏

    ماأسعدني.. سبقت أولاد الحارة كلّهم، اسم جدّتي أم الطاهر في رأس الصفحة، وكعك جدّتي بحبّة البركة واليانسون يدخل الفرن،...‏

    يتقاطر الأولاد ورائي، حسن وسالم وفادي وعبّودة، ومحمد وأيمن وبشير.. تتألّق عيونهم النّاعسة أمام نور الفرن، يتحلّب ريقهم وهم يَرَوْن الفطائر والهريسة الغارقة في السمن البلدي، والكعك المسمسم، والأقراص المنقوشة..‏

    سهرت جدّتي الليل بطوله مع أمّي وعمّتي من أجل كعك العيد، وجدّي لايحبّ إلاّ كعكات جدّتي.‏

    لايأكل حلوى إلا من صُنْع يديها.. وأبي كذلك، وأمي وعمّتي وأنا وإخوتي.. والأقارب، والجيران وأهل الحارة..‏

    ما إن يقترب العيد حتى نتحلّق حول الجدّة ما أجمل السهر والسّمر والحكايات التي نسمعها..‏

    ونمدّ أكفّاً صغيرةً منمنمة.. ولا ندري كيف تُرْبَطُ- بعدئذ- في أكياس قماشية، تشدّ جدّتي‏

    وتقول:‏

    - ضمّوا أصابعكم هكذا..‏

    وتحذّر أمّي:‏

    - ارفعوا أيديكم، بعيداً عن الأغطية والملاءات البيض!..‏

    أرفع صوتي محتّجاً:‏

    - ولكنْ.. أكبر كعكة من نصيبي!‏

    تبتسم جدّتي وتهمس في أذني:‏

    - أكبر كعكة يتقاسمها الجميع.. أنت ولد عاقل!‏

    أهزّ رأسي مقتنعاً:‏

    - نعم .. ياجدّتي.. الكعكة الكبيرة لي ولأخوتي..‏

    .................‏

    حكايات جدّتي تحملنا إلى عالم مسحور.. نسافر إلى بلاد مجهولة، نقطع غابة، نتسلّق جبلاً، نعبر نهراً أو بحراً، أو نهبط وادياً أو منحدراً..‏



    الصّواني صارت جاهزة، والكعك الطّازج يخرج من الفرن،جدّتي تفرك كفّيها بلهفة:‏

    - أنت.. منْ يفرحُ قلبي.. كم أحبّك!..‏

    أقفز أمامها..‏

    - أكبر كعكة من نصيبي!‏

    تمسك جدّتي بكفيّ وتقول:‏

    - انتظر.. ليس قبلَ أنْ..‏

    وتساعدها أمي:‏

    - هاتوا أكّفكم ياأولاد!..‏

    وننام تلك الليلة، أكفَّنا مضمومةٌ، وأصابعُنا مأسورة في أكياس جدّتي القماشية، ننام بهدوء بعد أن يئسنا من إظهار مهاراتنا فوق الوسائد والمساند، لاقفز ولا شقلبةَ ولا دحرجة..‏

    وفي الصباح، صباح العيد، نفتح أعيننا مبكّرين، وتحلّ جدّتي عقدة الأكياس، تحرّرُ أصابعنا، فإذا أكفّنا مخضّبةٌ بالحنّاء، تلك نقوش جدّتي النّاعمة السّحرية!..‏

    نفرد أصابعنا أمام وجوهنا، تضيء شموس، وتركضُ نجوم، لقد تلطّخت راحاتنا الوردية برسوم مدهشة، وها نحن نتذوّق مع جدّتي كعكها الّلذيذ.. وأكبر كعكة نتقاسمها جميعاً..‏

    ............‏

    تلك دارنا، فإذا اجتزتم الدرجاتِ الحجرية في أول حارة النحّاسين، وعبرتم البوابة_ هناك ذات القوس القديم، ستجدونني أمام الباب الخشبي، كفّاي ملطّختان بحنّاء جدّتي، وأنا أنتظركم، لتذوقوا كعك الجدّة، ولن تنسوا طعمه أبدأً..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  31. #31
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    قال جدّي،وهو يضع يده على كتفي:‏

    - قل ياصغيري، ماذا تتمنّى؟!..‏

    انتظرت لحظةً، ثمّ التمعتْ عيناي بفرح ، كأنّما كنت أنتظر أن يسألني هذا السؤال.. قلت:‏

    - اتمنّى يا جدّي أن أنال شهادة علمية عالية . وأن أسافر ، رفع جدي حاجبيه، وفتح عينيه، من دهشة، ثمّ أحاطني كعادته بذراعيه، واستفسر:‏

    - تسافر.. أنت تتمنّى أن تسافر.. إلى أين؟!‏

    قلت. وقد شعرت بالسعادة، لأنني أحظى باهتمام جدّي، ,أرغب في الإفصاح أمامه عن أحلامي:‏

    - أحبّ أن اسافر إلى كلّ مكان.. أحب أن اسافر لأرى المدن والبلدان، واعرف الدنيا، وأطوف شرقاً وغرباً.. ما أجمل أن أمتطي حصاناً قويّاً، أو أركب سيارة! ما أجمل أن استقلّ قطاراً، أو أنتقل على متن طائرة! ما أجمل أن ابحر على ظهر سفينة، أو أنطلق في مركبة فضائية أتجوّل بين الكواكب والنجوم! أنا أحبّ السفر كثيراً، ياجدّي‏

    .................‏

    ابتسم جدّي، ثمّ قال بهدوء:‏

    - حقاً. السفر مفيد، وفيه متعة، ولكنْ .. هل تعرف ما أفضل شيء تفعله إذا سافرت؟!‏

    أجبت دون تردّد:‏

    - أفضل شيء هو أن أحمل قناعاً خفيفاً وأنطلق، وأن أدوّن في مفكّرتي أسماء المدن التي أزورها، والأماكن التي أشاهدها!..‏

    قال وهو ما يزال يبتسم:‏

    - ذلك صحيح، ولكن هناك ما هو أفضل!..‏

    وقفتُ متحيّراً.. ما هو الأفضل في رأي جدّي..‏

    ولماّ طال انتظاره.. اقترب مني أكثر، وهمس بحنان ومحبّة:‏

    - أفضل ما تفعله في سفرك هو أن تغرس شجرة في كلّ مكان تذهب إليه!..‏

    - شجرة!..‏

    ردّدت كلمة شجرة.. وأنا اشعر بالدهشة ..‏

    ماذا يقول جدّي؟.. إنّه يريد ممازحتي كعادته..‏

    هل من المعقول أن أسافر، وأن أحمل معي غراساً، أنقلها إلى كل مكان لأزرعها.. أليس ذلك غريباً!..‏

    قلت بلطفٍ:‏

    - ولكنْ.. ما تطلبه صعب ياجدّي، أنا لا استطيع أن اقوم بهذا العمل، ربّما أضيّع على نفسي متعة السفر، ربّما أنشغل عن مشاهدة البلدان، والطّواف هنا وهناك، أأنا غارس أشجار أم رحّالة، مسافر!!‏

    أجاب- هذا المرة- بإصرار:‏

    - ومع ذلك، ياصغيري، لابدّ أن تغرس شجرة في كل مكان تسافر إليه!!‏

    ازدادت دهشتي، واتسعت حيرتي.. كنت أتخيّل أنني أسير؛ وعلى كتفي غراس من كل نوع غراس، كثيرة أنقلها بصعوبة. آه.. ما أتعب السفر وأنت تحمل هذه الأحمال، ما أشقّ التنقّل والتّجوال! ثمّ .. عليّ أن أجد لغراسي مكاناً، عليّ أن أبحث عن تربة تلائمها لأزرعها!... لا.. هذا مستحيل.. مستحيل.‏

    وضع جدّي كفّه الحانية على رأسي، وهمس:‏

    - أنت ذكيّ.. لم تعرف- بعد - ما قصدت إليه!.إنني أريد منك أن تتخذ- في كل مكان - تسافر إليه صديقاً، الصديق كالشجرة، ,اصدقائي كلّهم كالأشجار، أغصانها الأولاد، وثمارها الأحفاد، اتّخذ اصدقاء جدداً.. منهم الأشجار التي تغرسها في كل ناحية!..‏

    عانقت جدّي. لقد تعلّمت شيئاً جديداً، أحنيت رأسي أمام كلماته العذبة.. كنت أردّد هامساً:‏

    - سأفعل يا جدّي..‏

    أتمنى أن تحقّق أمنياتي..‏

    أن أنال شهادة علمية عالية،‏

    وأن أسافر إلى كلّ مكان أحبّه،‏

    وأن أغرس شجرة..‏

    من أجلي ومن أجلك..‏

    حتماً سيكون لدينا أشجار كثيرة..‏

    كثيرة جدّاً..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  32. #32
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    عامر وماهر أخوان يحب أحدهما الآخر حباً كبيراً... وهما مثل صديقين متفاهمين منسجمين... لايتشاجران... ولايتخاصمان.‏

    ماهر الأول في صفه دائماً... وكذلك عامر. وهما لايفترقان إلا قليلاً عندما ينصرف أحدهما إلى هوايته الخاصة.‏

    هواية عامر أن يتطلع إلى السماء ويتعرف إلى النجوم وأسمائها، ومواقعها، وأبراجها...‏

    ويحلم أن يكون في المستقبل رائد فضاء.. بينما يبحث ماهر في الأرض وينقب عن حجر فضي مشع سمع عنه، وقالوا إن فيه معدنا نادراً، وهو يأمل في المستقبل أن يصبح من العلماء.‏

    وبما أن الطفلين يعيشان منذ ولادتهما في منطقة اكتشاف وتنقيب عن البترول، وضمن مدينة عملية صناعية حيث يتوفر لها المناخ الطبيعي والعلمي فقد تعلق كل منهما بهوايته بتشجيع من الأبوين، وأصدقاء الأسرة من العلماء والخبراء.‏

    وفي ليلة ربيعية، والسماء مشحونة بغيوم سوداء، والعاصفة توشك أن تهب رجع الطفلان من المدرسة متعبين، قال ماهر لعامر:‏

    ـ أنت لاتنظر نحو السماء ياعامر... طبعاً لن ترى نجومك وأبراجك من وراء الغيوم.‏

    قال عامر:‏

    ـ وأنت أيضاً تتعجل في مشيتك كأنك لاتهتم بما يصادفك من أحجار.‏

    وضحك الاثنان معاً لأنهما يعرفان جيداً أن هذا ليس وقت الهوايات فالامتحان قريب، وعليهما أن ينصرفا للدراسة، ثم إن جو اليوم لايساعدهما على ذلك.‏

    وبعد أن انتهيا من دراستهما وذهبا إلى النوم كانت العاصفة قد انفجرت، فهطلت الأمطار بغزارة، وقصف الرعد، ولمع البرق، وحملت الريح الشديدة ذرات التراب الذي يهبط أحياناً على مثل هذه المناطق في الصحراء فيغطيها بطبقة كثيفة كأنها رداء من (الطمي) الأحمر. قفز ماهر وهو الأصغر إلى فراش عامر الذي كان يتابع ظهور البرق واختفائه، فضحك منه قائلاً:‏

    ـ هل تخاف ياعامر من العاصفة؟ .. أنا لاأعرفك جباناً.‏

    ارتبك عامر وأجاب:‏

    ـ لا ... ولكنني أشعر بالبرد.‏

    فقال ماهر:‏

    ـ لماذا لانتحدث قليلاً قبل أن ننام؟‏

    قال عامر:‏

    ـ حسناً... أحدثك عن نجمي الذي رأيته مرة واحدة في الصيف الماضي ثم اختفى عني.‏

    هل تتذكر تلك الليلة التي ذهبنا فيها مع بعض العلماء إلى الصحراء؟‏

    أجاب ماهر:‏

    ـ نعم أتذكر... وهل نسيت أنت ذلك الحجر المشع الذي لمحته في أعماق تلك البئر البترولية المهجورة؟‏

    وظل الإثنان يتحدثان... حتى وجد عامر نفسه رغم العاصفة في قلب الصحراء.‏

    المطر يبلله... والهواء يقذفه كالكرة من جانب إلى آخر، والرعد يدوي بينما البرق يضيء له مكان نجمه الضائع فيصفق فرحاً وسروراً.‏

    وكذلك وجد ماهر نفسه وقد تدلى بحبل متين إلى أعماق البئر، وقبض بيديه الاثنتين على الحجر الفضي، وهو يهتف: وجدته... وجدته... انه لي.‏

    ورغم التراب الذي كان يتساقط فوقه وقلة الهواء فقد كان يحاول الخروج بعد أن حصل على حجره الثمين وهو مصرّ على ألا يفقده من بين يديه.‏

    وهكذا ناما طوال الليل... وعندما استيقظا وأخذ كل منهما يحكي للآخر ماذا رأى في الحلم، كان الأب يدخل غرفة طفليه ليطمئن عليهما. وعندما وجدهما صامتين حزينين تعجب مما بهما.‏

    سأل عامر:‏

    ـ هل تتحقق الأحلام ياأبي؟‏

    وسأل ماهر:‏

    ـ ألا يمكن العثور على أحجار فضية ثمينة ومشعة؟‏

    ولأن الأب كان يعرف هواية طفليه فقد أجاب:‏

    ـ إذا سعى أحدنا وراء أحلامه فلابد أن تتحقق... ثم أن الطبيعة غنية جداً بعناصرها، ومعادنها، والإنسان يكتشف كنوزها كل يوم.‏

    وهنا دخلت (سلمى) الصغيرة وراء أمها وهي تعانق دميتها وتقول:‏

    ـ أنا لم أفهم شيئاً يابابا مما قلت... ماذا قلت؟‏

    أجاب الأب وهو يضحك:‏

    ـ ستفهمين يوماً ما كل شيء... كل شيء.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  33. #33
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    تلك الليلة كانت عاصفة، والبنات الثلاث الصغيرات في أسرتهن. الهواء يصفر كعواء كلاب جائعة، وأغصان الشجر تصفق مهتاجة وكأنها تتقصف. لم يكن يشعرن بالبرد، فالغرفة دافئة والأغطية صوفية ناعمة.‏

    الأم التي يحلو لها في مثل هذه الليلة أن تستعيد حكايات جدتها تقول:‏

    ـ كان ياما كان... في قديم الزمان..‏

    تقاطعها الكبرى:‏

    ـ عرفنا الحكاية.. كان هناك ثلاث بنات يغزلن... حتى يأكلن.‏

    ترد الأم وهي تتنهد:‏

    ـ لا... لم تحزري.. ليست هذه هي الحكاية.‏

    تنبر الوسطى:‏

    ـ ثلاث بنات خياطات... يشتغلن في قصر السلطان... والصغيرة اسمها (حب الرمان)..‏

    وهي التي أضاعت (الكشتبان).‏

    تضحك الأم وتقول:‏

    ـ بل الوسطى التي اسمها حب الرمان... وهي التي عن قصد وعمد رمت في الماء الكشتبان.‏

    تكمل الصغرى:‏

    ـ ذلك لأنها كسولة... وملولة. لاتحب الإبرة والخيطان... وتتلهى مع أولاد الجيران.‏



    الكبرى تسأل:‏

    ـ وما اسم البنت الأولى إذن؟‏

    تقول الأم:‏

    ـ قمر الزمان...‏

    ـ والثالثة؟ /تسأل الصغرى/‏

    تجيب الأم:‏

    ـ اسمها نيسان.‏

    وبينما الأم ترد الأغطية فوق البنات صرخن محتجات:‏

    ـ نريد حلماً... لاحكاية. نريد حلماً.. حلم... حلم.‏

    ـ حسناً../تقول الأم/ ـ أغلقن النوافذ.. وأطفئن النور ولتطلب كل واحدة منكن حلماً لها.. وسأضعه قبل أن أنصرف تحت مخدتها.‏

    قالت الكبرى:‏

    - أنت اعطينا ياأمي .. أنت اعطينا . دائماً أنت تعطيننا أكثر من أحلامنا‏

    ـ أعطيك مهراً أشقر جميلاً... بل أبيض.. تكبرين ويكبر معك، وتصبحين فارسة.‏

    همست الكبرى لأختيها:‏

    ـ وكيف سأتصرف مع الحصان الصغير؟ كيف سأعتني به.. بطعامه وشرابه.. بنومه وصحوه..بلهوه وجريه؟ لا.. لا أريد.. لماذا لاتعطيني أمي سيارة بيضاء ونظيفة أدير محركها في لحظة فتحملني إلى حيث أشاء؟‏

    قالت الأم للوسطى:‏

    ـ وأنت أعطيك خمسة أرانب بيضاء جميلة... تلك التي في الحديقة. تلاعبينها كالقطط، وتتسلين بمنظرها... بتكاثرها وتوالدها.‏

    همست الوسطى لأختيها:‏

    ـ ولماذا لاتعطيني فراء هذه الأرانب؟ فأصنع منها قبعة وقفازات، وربما صنعت معطفاً.‏

    قالت لها الكبرى وهي تضحك:‏

    ـ والخياطات الثلاث سيساعدنك في ذلك.‏

    أكملت الوسطى:‏

    ـ بل هما اثنتان.. لأن الصغرى عاقبوها فطردوها من العمل.. وأنزلوها إلى المطبخ لتقشر الثوم والبصل.‏

    وقبل أن تعطي الأم للصغرى أي شيء بادرتها هذه قائلة:‏

    ـ أما أنا فأريد فراشة ملونة... أجنحتها زرقاء ووردية... لابل صفراء وبنفسجية.. تنتقل بين الزهور بلطف وحبور... تنشر الأحلام وتطويها. أليست أميرة الطبيعة في جبالها وبساتينها وبراريها؟‏

    وقبل أن تتم كلامها كانت قد استغرقت في النوم.‏

    عند الفجر اشتدت العاصفة أكثر وأكثر.. حطمت النوافذ والأبواب.. اقتلعت الخزانات.. كسرت المرايا... بعثرت الثياب.. وأطارت كل شيء. وأفاق الجميع خائفين مذعورين.‏

    وقفت الأم مع بناتها الثلاث.. حائرات واجمات.. فلا بيت يأوين إليه.. ولاسيارة يركبنها.. وهن يرتجفن من البرد.‏

    صهل حصان صغير عن بعد كأنما هو يعلن عن نفسه.‏

    قالت الكبرى:‏

    ـ هذا حصاني.. ماكان أغباني ظننت أن الحلم لن يتحقق.‏

    وقالت الوسطى وهي تمد يديها الباردتين إلى قفص الأرانب:‏

    ـ ما أجملها.. ما أدفأها.. ماأنعمها... عددها أكثر من خمسة... سبعة... عشرة، لاأدري ، كنت أحبها ولاأدري. تحتاج صغارها من يرعاها... وأنا سأرعاها.‏

    أما الصغرى فقد نظرت حولها ولم تكن هناك فراشة واحدة بعد العاصفة فقد جرفتها كلها، قالت:‏

    ـ لكنني أنا دوماً معي حلمي... فراشتي هنا في قلبي.. لا هنا في رأسي... لا هنا في عيني...‏

    ودمعت عيناها وهي ترى أجنحة الفراش تتطاير في الهواء، وظلت تردد:‏

    ـ آه... ما أجملها فراشة... فراشتي.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  34. #34
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    لم يعرف أحد إلى أين توجهت رنا بعد أن خرجت من المخيم لأنه لم ينتبه إليها أحد. فالجميع مشغولون بما حدث في الصباح الباكر من اعتداء جنود الاحتلال على البيوت. لقد هجموا على الأبواب فحطموها، وعلى الرجال فساقوهم إلى الساحة... أما الفتيان فلم يتركوا منهم واحداً بل جروهم كلهم إلى السيارات العسكرية.‏

    وصرخت النساء... وبكى الأطفال الصغار كما لو أن ناراً تحرقهم. وتعالت الأصوات من كل جانب عندما سدد جندي الرصاص على فتى رمى مجموعة الجنود بزجاجة حارقة. وقع انفجار، وتكاثر الدخان وارتمى الفتى قتيلاً.‏

    رنا الصغيرة النحيلة كانت في الطابق العلوي في بيتهم المتهدم ورأت كل شيء... وبما أن الفتى القتيل كان ابن عمتها، وكانت تحبه كثيراً فقد قالت في نفسها:‏

    ـ لماذا لاأختبئ وراء ذلك السور قريباً من السيارات العسكرية وأرمي جنود الاحتلال بالحجارة؟‏

    ولم تشاور عمتها التي تعيش معها بعد أن ماتت أمها... ولم تشاور غيرها، فهي تدرك جيداً أنهم لن يمانعوا ماداموا جميعاً يجابهون الأعداء.‏

    وبسرعة دخلت رنا إلى غرفتها الخالية من الأثاث ماعدا فراش واطئ، وصندوق تضع فيه ثيابها... بحثت عن معطفها الشتوي الطويل... ولما لم تجده نثرت كل أشياء الصندوق، ثم تذكرت أنهم وضعوه تحت الفراش ليغدو سميكاً.‏

    سحبته بعنف وارتدته والطقس صيف... والحر شديد.‏

    تسللت وراء البيوت وأخذت تجمع ما أمكنها من الحجارة، وتضعها في جيوب المعطف. ولما وجدت أنها لم تتسع لأكثر من عدد محدود، مزقت بطانة المعطف وحشته بالحجارة الصغيرة، ثم سارت متثاقلة وليس في قدمها إلا حذاء كبير مهترئ من البلاستيك تلبسه عمتها أثناء نشر الغسيل.‏

    ولمح أحد الجنودبنتاً صغيرة تمشي ببطء كما لو أنها تسير فوق بيض. ارتعدت عندما تقدم منها، واصفرّ لونها. قال لها:‏

    ـ إلى أين أنت ذاهبة ياقردة؟ ألا ترين أنه ممنوع المرور؟‏

    ارتبكت رنا، ثم نظرت بعينين مذعورتين إلى نفسها، واستجمعت جرأتها وقالت:‏

    ـ أنا مريضة... وذاهبة لعند خالتي قرب السور، لأنه لم يعد أحد في البيت.‏

    تأملها الجندي، ثم قال:‏

    ـ ولماذا هذا المعطف ونحن في عز الصيف؟‏

    قالت:‏

    ـ إنا بردانة... مصابة بالحمى..‏

    ولم يكمل أسئلته حتى كانت قد بدأت تبتعد بخطوات ثابتة، متهيئة لأن تهرب لو حاول أن يقبض عليها. ولكنه أدار وجهه عنها وهو غير مطمئن تماماً، فهؤلاء السكان يملكون من الجرأة والذكاء مالم يكونوا يتصورونه هم المحتلون حاملو الحضارة كما يعتقدون، ممكن أن الطفلة مصابة بالحمى... أو بلوثة في عقلها. ممكن. فكر بهذا ثم انصرف عنها.‏

    رنا لم تكن مصابة بالحمى.. ولا بلوثة في عقلها... لكنها حيلتها ضد عدوها وإلا قبض عليها وفعل بها مايفعلونه بغيرها. وإذا لم تقل ذلك فكيف تنجو منه، وتحقق غايتها؟‏

    وصلت رنا إلى السور وسرعان مانزعت المعطف وأفرغت مافيه من الحجارة أمامها، وأخذت تقذفها حجراً حجراً، وكلما رمت واحداً خبأت رأسها لحظات، ثم رفعته بحذر حتى إذا لم تجد أحداً يراها قذفت الآخر... وهكذا.‏

    كانت تقفز من الفرح، وتدلك يديها كلما أصاب الحجر جندياً، ولم تشعر إلا بيد كالحديد تقبض على عنقها، ثم تصفعها بقوة جعلت الدم ينفر من فمها.‏

    كان ذلك الجندي الذي تركها تمر وقد اعتقد أنها مريضة وبردانة قال بغضب:‏

    ـ أهذه أنت إذن.. مريضة وبردانة... وتذهبين إلى خالتك؟‏

    هيا... سآخذك إلى جهنم أنت وخالتك... هناك أدفأ... ونخلص منكم. أين بيت خالتك؟‏

    وتكورت رنا مثل قطة مدهوسة عندما أمرها الجندي أن تمشي أمامه... ماذا تفعل؟ لم يعد أمامها إلا الاستسلام. لكن رنا أمسكت بالمعطف... تظاهرت أنها تجمعه لتأخذه معها. انحنى الجندي ليبعدها عنه... رمته فوق رأسه، ثم التقطت الحجر الوحيد المتبقي على الأرض... وبينما كان يصرخ ويحاول التملص من المعطف كانت رنا قد اختفت بين البيوت قرب السور.‏

    وعندما كان الجندي يسأل زملاءه: هل رأوا بنتاً صغيرة ترتدي معطفاً شتوياً طويلاً سميكاً؟ كانوا يهزؤون به ويقولون: هل هناك من يرتدي معطفاً في عز الصيف؟‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  35. #35
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    على قمة تلة خضراء عالية في بلاد بعيدة كان يعيش صبي صغير مع جده العجوز الذي يرعاه ويحبه كثيراً.‏

    وإذ كان الجد يخرج كل يوم إلى حقله ليعمل فيه طوال النهار، كان الصبي يخرج كل صباح مع شروق الشمس ليقف على قمة التلة العالية ينظر إلى الأفق ويفتح رئتيه لهواء الصباح النقي.‏

    فما تلبث الشمس أن تغمره بنورها، وتغمره معها سعادة كبيرة عندما يشعر بقوة أشعتها تتغلغل في جسمه. كان يحب الشمس فهي تسكب ضياءها في بريق عينيه، وفي تألق خصلات شعره الذهبية، وفي لون بشرته المسمر، وهي التي تسكب في جسده قوة خارقة تمنح الحياة لكل ماحولها من الأشياء.‏

    وكان ينظر من قمة التلة إلى البعيد فيرى بحراً واسعاً أزرق اللون يتماوج على سطحه انعكاس أشعة الشمس كأنه ماس متدفق.‏

    كان ذلك يسحره ويشده لمغامرة جديدة فقد اعتاد أن يرافق جده في مغامرات كثيرة يكتشف فيها العالم من حوله.‏

    ولكن الجد الآن أصبح طاعناً في السن وها هو يقول له:‏

    ـ لقد تقدمت بي السنون يابني... ولابد لي من أن أرحل عنك قريباً. عليك أن تتسلح بالمعرفة والعمل الدؤوب.‏

    وكان الجد وهو رجل حكيم متواضع وبسيط يعرف أن حفيده ليس صبياً عادياً ويعرف أن الشمس تمنحه كل يوم قوتها الخارقة فيصبح قادراً على أن يعيد الحياة إلى ماحوله ماأن يمسك به بيديه القويتين. ولكن الشمس عندما كانت تغيب تغيب معها قوة الصبي.‏

    لقد سمعه ذات مرة يقول لوردة الصباح الذابلة:‏

    لاتحزني يانبتتي العزيزة سأسكب في عروقك قوتي فتسري الحياة في نسغك.‏

    ويقول لكلبه الأسمر وهو يمسح على جسمه الصغير:‏

    لقد أصبحت هرماً يارفيقي وكنت معي دوماً لم تفارقني يوماً....لن أدعك تموت.. سأعيد الحياة إلى جسمك الهزيل هذا.‏

    ولكن الصبي لم يكن ليدرك أن جده عندما كان يأخذه معه إلى الحقل ويطلب منه أن يزرع الزرع ويعتني به ويحصد ثماره بعد مدة يريده أن يعتمد على قوة الحياة الحقيقية وهي العمل.‏

    وذات يوم تأخر الصبي عند قمة التلة الخضراء على غير عادته حتى أوشكت الشمس على المغيب. وقبل أن يعود إلى البيت أسرع يجمع أغصان الشجرة الكبيرة التي كسرتهاالعاصفة وأخذ يغرسها في الأرض من جديد وضوء الشمس يملأ عينيه والأمل يملأ صدره بأنها ستصبح أشجاراً قوية كأمها الشجرة الكبيرة.‏

    وعندما وصل إلى بيته وجد جده وقد فارق الحياة، فأسرع نحوه وهو يظن أن قوته الخارقة ستجعل جده يعيش من جديد، ولكنه عندما التفت نحو السماء ناظراً إلى الشمس وجدها قد غابت ولم تخلف وراءها في الأفق سوى شعاع أحمر ضعيف، وعندما أمسك بالعجوز بيديه القويتين لم تعد إليه الحياة.‏

    لقد عجزت قوته الخارقة عن أن تمنح الحياة حتى لأحب الناس إلى قلبه.‏

    فأطرق والحزن يملأ عينيه وفكر طويلاً. وأدرك أنه يمكن للحياة أن تستمر فقط من خلال الجد والعمل، وأن عليه أن يعتمد على نفسه وعلى دأبه لا على ما منحته إياه الطبيعة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  36. #36
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    سامر يخرج إلى البرية حائراً... يسير وهو يعد: واحد، اثنان، ثلاثة.... ترى لمن يعطي هذه القطع الفضية التي معه؟... معلمه يقول له: أنت بارع في الحساب يا سامر... والمدرسة تقدم له مكافأة... جده قال له: هل تعطيها لمن يحزر؟ أو من يفكر؟ أو من يدبر؟.‏

    مامعنى ذلك؟.. من يحزر أي من يعتمد على الحظ والمصادفة. ومن يفكر أي من يستعمل عقله أمام الأمور. أما من يدبر فلاشك أنه من يتصرف حسب ماتقتضي الظروف.‏

    سامر لديه لكل قطعة سؤال، ومن يعرف الإجابة ينال القطعة. أخذ يمر على القرى القريبة من بلدته وكان عددها ثلاثاً.‏

    في الأولى رأى الناس يحركون أيديهم وكأنهم يحصدون القمح.. يحركونها حركات رتيبة وبطيئة ومملة لكنهم لايتوقفون... إنه حصاد وهمي.. فلا قمح أمامهم.. ولامناجل في أيديهم.. ولاشيء سوى هذا الانهماك الفارغ كأنهم يجمعون الهواء.‏

    عندما سأل سامر أحد المارين بالقرية وكان شيخاً وقوراً قال:‏

    ـ هؤلاء يابني قاطفو النجوم... زارعو الأحلام، إنهم يتصورون أنهم شقوا الأرض وزرعوا، وسقوا واستنبتوا، وما عليهم الآن سوى أن يحصدوا.‏

    وها أنت ترى أنها أحلام في أحلام... وأن الحصاد مجرد كلام... ومن زرع وهماً حصد الكثير من الأوهام.‏

    لم ينتبه هؤلاء الناس لسامر عندما دخل بينهم. حاول أن يحاورهم لكن أحداً منهم لم يكلمه، ولم تتوقف أيديهم عن الدوران بينما عيونهم تتطلع إلى السماء.‏

    تعجب سامر من حال هؤلاء الناس وسار في الطريق إلى القرية الثانية... وجد أناساً أصحاء أشداء، عضلاتهم مفتولة، وأجسامهم قوية، وهم منهمكون في كسر الحجارة وحملها ونقلها... والعرق يتصبب من جباههم... ملامحهم جامدة كالصخر... ووجوههم مقطبة وكأنها لم تعرف الابتسام... ولاأحد منهم يتوقف دقيقة أو يستريح لحظة.‏

    سأل سامر أحد المارين بالقرية وكان رجلاً جسيماً قوياً فقال:‏

    ـ هؤلاء يابني حاملو الأسرار...محطمو الأحجار... إنهم يعملون ولايتكلمون... يشقون ويتعبون ولايسألون.. همهم أن يبذلوا الجهود تلو الجهود حتى ولو لم ينالوا أي مردود... يعملون ولايتذمرون.. ويقنعون بالرغيف وحبات الزيتون.‏

    هؤلاء الناس لم يتيحوا لسامر أن يدخل بينهم... بل نهروه وطردوه... ووقفوا سداً في وجهه ومنعوه.. فلم يجد أمامه سوى أن يتابع طريقه.‏

    في القرية الثالثة وجد جموعاً من الناس كسالى حيارى..يجلسون على الأرض ينصتون بآذان طويلة ونفوس عليلة... وكلما علت الأصوات أو تداخلت أو تقاطعت كانوا يديرون نحوها آذاناً كالأبواق تلتقط كل شيء من كل الجهات والآفاق. أمورهم فوضى... وحياتهم بلاجدوى.. فهم أناس عاطلون معطلون... وهم يحسبون أنفسهم في قلب المعركة يقاتلون.‏

    وعندما سأل سامر أحد المارين بالقرية... وكان رجلاً نحيلاً طويلاً، هادئاً عميقاً قال له:‏

    ـ هؤلاء يابني أشقى الناس... فهم أهل الوسواس... لايكفيهم أنهم لايفهمون مايسمعون... بل هم لايدركون مايفعلون. يأخذون الأصوات ويتركون الأصداء... وتضيع أفكارهم بين أرض وسماء.‏

    حاول سامر أن يدخل بينهم.. أن يفهم منهم أو عنهم لكنهم كانوا عنه مشغولين... وبأعباء مايسمعون منهمكين.‏

    خرج من القرية الثالثة وهو يداعب قطعة فضية، ويقول: واحد، اثنان، ثلاثة. القسمة على ثلاثة. ظهرت له الساحرة العجوز وأعطته كيساً وإبرة وخيطاً، وقالت له:‏

    ـ ضع فيه كل ماتريد... واحبسه في هذا الكيس الجديد... ثم أطلقه فينطلق كما الماردالعنيد.. من قمقم الحديد.‏

    قالت هذا ثم اختفت مع الهواء.. فتعجب سامر ثم قذف بالقطعة الأولى فارتفعت عالياً عالياً في الجوثم تكسرت إلى آلاف النجوم الصغيرة البراقة... أخذت النجوم تهوي نحوه كحبات البرد فبدأ يجمعها ويعبئها بالكيس حتى ظن أنه امتلأ.‏

    تنهد تعباً.. ثم مشى ومشى حتى صادف بيادر الحصاد، والقمح الذهبي الناضج يتكدس فوق بعضه بعضاً، وتلفحه حرارة الشمس، فتح الكيس مرة ثانية وأخذ يحشوه بالسنابل المليئة حتى ظن أنه امتلأ.‏

    جلس ليستريح قليلاً فهبطت نحوه العصافير والطيور المغردة وهي تصدح بأعذب الألحان، فتهرب منها الأصداء كأسراب الحمام، تساءل سامر: ترى هل أستطيع أن أختزن الأصداء أيضاً؟‏

    تذكر ماقالته العجوز: تستطيع أن تضع في هذا الكيس كل شيء... كل شيء.‏

    لم يلبث أن أغمض عينيه وترك الأصوت تمر عبر أذنيه، ثم فتح الكيس ولامس أطرافه بأصابعه كما لو أنه يعزف فأحس أن الأصداء تسللت كالنسيم إلى داخله فتركها تفعل مدة طويلة، ثم أغلق كيسه وحمله ومضى.‏

    كان يصفر ويغني مردداً: واحد، اثنان، ثلاثة... القسمة على ثلاثة. فتذكر أهل القرية الأولى الذين يزرعون النجوم ويقطفون الأحلام فأسرع نحوهم متحمساً، ثم مد يده إلى الكيس فأخرج سنابل القمح، وقدمها لهم ففرحوا بها وأسرعوا بزرعها.‏

    توجه إلى القرية الثانية حيث الذين يحملون الأسرار ويكسرون الأحجار... فتح الكيس ونثر عليهم نجوم الأحلام فأشرقت وجوههم... وابتسموا.. جففوا عرقهم، وجلسوا يستريحون وقد التمعت عيونهم ببريق الأمل. أخذوا يبنون قصور الأماني للمستقبل، ويزينونها بقطع النجوم، متناسين التعب وكل الهموم.‏

    أما أولئك الحيارى الكسالى... ذوو الآذان الطويلة.. والنفوس العليلة... الذين يلتقطون الأصوات بلا أصداء حتى لو كان حفيف الشجر أو همس الماء، فقد نفض بين أيديهم كل ما تبقى معهم في الكيس متمنياً أن يظل معهم ، وأن يكون لهم خير جليس.. يسمع كلامهم ويفهمهم من خلال لغة حوارهم.‏

    رفع سامر الكيس فأحس أن حمله خفيف..وكأن ليس فيه الا هواء لطيف .لكنه في الحقيقة كان يحتوي على سؤال جوابه عند سامر بألف جواب: هل القسمة على ثلاثة كان فيها العدل ..أم الجهل؟‏

    تحير سامر وهو البارع في الحساب،لكنه فكر وأعطى على الفور الجواب انها القسمة...القسمة.‏

    ومضى يعد : واحد ..اثنان ..ثلاثة ...القسمة على ثلاثة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  37. #37
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    عندما جاء العمال ليقوموا بالقطع التجديدي لاشجار الشارع العام، سمعت ريما ضجيجاوأصواتا كثيرة فأسرعت تطل من نافذة غرفتها .فوجدتهم وقد اتوا بسلم حديدي طويل وبمنشار كهربائي برتقالي اللون ،وأخذوا يشيرون إلى الشجرة الباسقة التي تمتد فروعها نحو نافذة ريما، وأحدهم يقول : لنبدأ بهذه الشجرة الكبيرة أولاً.‏

    عند ذلك دخلت أخت ريما الصغيرة إلى الغرفة وركضت نحو النافذة وهي تصيح:ريما ..ريما..إنهم يقطعون الشجرة التي تحبينها ، أوقفيهم ....لماذا لا تقولين لهم شيئاً ؟ ألم تري ماذا يفعلون ؟‏

    ضحكت ريما وهي تنظر إلى أختها وقالت :‏

    -وهل تعتقدين أنهم سيقطعون الشجرة كلها ؟....لا، إنهم فقط يجرون القطع التجديدي للأشجار فيقطعون الأغصان الكبيرة الممتدة والمتشابكة.‏

    -ولماذا يقطعونها ؟إن منظرها جميل ‍‍‍‍‍‍‍!‏

    -ولكنها تحجب الضوء عن باقي أجزاء الشجرة .وهم اذا يقطعونها يعطون الشجرة أيضاً شكلاً أجمل ويعيدون إليها حيويتها.‏

    ولما كانت ريما منشغلة بحديثها مع أختها الصغيرة لم تنتبه لما كان يجري في الخارج .‏

    كانت مجموعة العصافير التي تسكن الشجرة تتعالى أصواتها وهي تتشاور فيما بيتها عما يمكنها عمله ما داموا سيقطعون أغصان الشجرة ..وهم قد بنوا عليها أعشاشهم منذ شهور!....‏

    لا بد لهم إذن من أن يهاجروا ...ولكن أين ؟‏

    وارتفعت أصواتهم أكثر وازدادت حدة وعصبية ، حتى إن العمال عدلوا عن رأيهم وقرروا أولاً أن يبدأوا أولاً بقطع أغصان الأشجار التي تقع في نهاية الشارع.‏

    وفي صباح اليوم التالي عندما فتحت ريما نافذة غرفتها سمعت أصوات العصافير وهي تزقزق عاليا،ولما نظرت إلى الشجرة الكبيرة وجدتها وقد قطع ما كان عليها من أغصان ، فتساءلت :‏

    -اين ذهبت تلك العصافير يا ترى ؟..‏

    لابد أنها في مكان قريب ...‏

    ولم تبحث ريما طويلاً ثم قالت :‏

    -أجل إنها هناك في حديقة الجيران على شجرة السرو الهرمة ذات الأوراق الأبرية كأنها الأشواك .‏

    وبينما هي تفكر اذا بعصفور هرم يفرد جناحيه حائما حول الشجرة الكبيرة ثم ما لبث أن حط عليها وهو ينظر إلى باقي العصافير وهي تروح و تجيء حاملة بأفواهها عيدانا من القش .‏

    وقف العصفور الهرم طويلاً وهو حزين كئيب وبينما هو كذلك حطت بقربه مجموعة من العصافير الفتية، فتقدم منه أحدها وقال :‏

    - هل ستطول غربتنا عن المسكن الذي ولدنا فيه واعتدنا أن نعيش فيه منذ طفولتنا ؟...صمت العصفور الهرم قليلاً ثم أجاب :‏

    -...لا بد من أن نبني معاً العش من جديد ....‏

    وطار عالياً ولحقت به بقية العصافير .‏

    بقيت ريما في نافذتها تراقب جموع العصافير وهي تعمل منهمكة في بناء أعشاش جديدة لها ، وتراقب العصفور الهرم وهو يشجع الصغار منهم ويساعدهم ويبث الأمل في نفوسهم .كان يعرف أن الشجرة سرعان ما تمتد فروعها من جديد وتكسوها الأوراق الخضر الفتية بغزارة، وعند ذلك يمكن لهم أن يعودوا اليها مرة أخرى .‏

    ولما أغلقت ريما زجاج النافذة وأغمضت عينيها رأت كم سيكون ربيع الشجرة الكبيرة جميلاً وأخضر هذا العام تسكنه العصافير وتملؤه بالبهجة .‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  38. #38
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    - كمال: هات الحجارة يا جمال ..‏

    - سهى: ها هي هنا يا كمال ..العصا والحبال‏

    - نهى: اسرعوا يا أولاد ..خبئوا البنادق ..‏

    - جمال : سوف نرمي في وجوههم هذه الزجاجات المليئة بالوقود أيضاً ...‏

    - كمال : ضاحكاً : هذه حجارة كبيرة حادة الأطراف تصلح لأن تشج الرؤوس ..‏

    - نهى : أجل سوف نخيفهم بها أيضاً‏

    - جمال : هيا لنختبئ اسمع وقع خطوات‏

    - سهى : إليَّ بالذخيرة يا نهى ...‏

    - كمال : ها هم قادمون ...استعدوا..سوف ننجح هذه المرة ..وكما في كل مرة ..كان الرجل الشرير الذي تسلل إلى القرية يريد أن يسرق بيت الاولاد .. وقد دبر خطته الماكرة بكل خبث ودهاء .لكنه ما ان مر قرب النافذة وسمع ماكان يقوله الأولاد حتى ارتعد وخاف، واختبأ إلى جانب البيت لايجرؤ على الحراك، ثم قال في نفسه ‍!‏

    ـ ماذا أفعل؟!.. لقد سمعوا وقع أقدامي وتهيأوا .. يا إلهي.. الهروب أحسن... الهروب أحسن وإلا أوقعت نفسي في مأزق... هؤلاء الأطفال ليسوا هينين...‏

    وانسل الرجل الشرير ببطء مثل نمس في الظلام، وما لبث أن أطلق ساقيه للريح يعدو دون أن يجرؤ على الالتفات نحو الوراء..‏

    والحقيقة أن سهى ونهى وكمال وجمال كانوا يقلدون المشاهد التي رأوها في التلفزيون عن أطفال الانتفاضة ويكررون العبارات التي سمعوها وهم يتخيلون أنفسهم في الأرض المحتلة، وقد انضموا إلى أبناء الانتفاضة يدافعون عن أرضهم وعن حقوقهم بكل بسالة وشجاعة..‏

    لكن الرجل الشرير لم يكن يعلم أن الأولاد هذه المرة كانوا (فقط) يلعبون.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  39. #39
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    استيقظ طارق يوم عيد الشجرة متأخراً على غير عادته... وكان يبدو عليه الحزن. ولما سأل أمه عن أخوته وقالت له انهم ذهبوا ليغرسوا اشجاراً اضطرب وقلق. قال بغيظ:‏

    ـ ومتى ذهبوا ياأمي؟‏

    أجابت:‏

    - منذ الصباح الباكر .. ألم يوصوكم في المدرسة أنه يجب أن يغرس كل منكم شجرة ؟ ألم ينبهوكم إلى أهمية الشجرة؟‏

    قال :‏

    ـ نعم.. لقد أوصتنا المعلمة بذلك... وشرحت لنا عن غرس الشجرة في عيد الشجرة، أما أنا فلا أريد أن أفعل.‏

    قالت الأم بهدوء وحنان:‏

    ـ ولماذا ياصغيري الحبيب؟... كنت أتوقع أن تستيقظ قبلهم، وتذهب معهم. لم يبق أحد من أولاد الجيران إلا وقد حمل غرسته وذهب.. ليتك نظرت إلى تلاميذ المدراس وهم يمرون من أمام البيت في الباصات مع أشجارهم وهو يغنون ويضحكون في طريقهم إلى الجبل لغرسها. إنه عيد يابني فلاتحرم نفسك منه..!‏

    قال طارق وقد بدأ يشعر بالغيرة والندم:‏

    ـ لكن الطقس باردجداً ياأمي. ستتجمد أصابعي لو حفرت التراب، وأقدامي ستصقع.‏

    أجابت:‏

    ـ ومعطفك السميك ذو القبعة هل نسيته؟ وقفازاتك الصوفية ألا تحمي أصابعك؟ أما قدماك فما أظن أنهما ستصقعان وأنت تحتذي حذاءك الجلدي المبطن بالفرو!‏

    صمت طارق حائراً وأخذ يجول في أنحاء البيت حتى وقعت عينه على التحفة الزجاجية الجميلة التي تحفظ صور العائلة وهي على شكل شجرة، ووقف يتأملها.‏

    قالت الأم:‏

    ـ هل ترى إلى شجرة العائلة هذه؟ إن الأشجار كذلك.. هي عائلات... أم وأب وأولاد. وهي تسعد مثلنا إن اجتمعت مع بعضها بعضاً وتكاثرت، فأعطت أشجاراً صغيرة. إن الشجرة هي الحياة يابني ولولاها ماعرفنا الفواكه والثمار.. ولا الظلال ومناظر الجمال. إضافة إلى أننا ننتفع بأخشابها وبما تسببه لنا من أمطار، ثم هل نسيت أن الأشجار تنقي الهواء وتساعدنا على أن نعيش بصحة جيدة.‏

    صمت طارق مفكراً وقال:‏

    ـ حسناً... أنا أريد إذن أن أغرس شجرة.. فهل شجرتي ستصبح أماً؟‏

    أجابت الأم بفرح:‏

    ـ طبعاً... طبعاًيابني. كلما كبرت ستكبر شجرتك معك، وعندما تصبح أنت أباً تصبح هي أماً لأشجار صغيرة أخرى هي عائلتها، وستكون فخوراً جداً بأنك زرعتها.‏

    أسرع طارق إلى خزانة ثيابه ليخرج معطفه وقفازاته، سأل أمه بلهفة:‏

    ـ هل أستطيع أن ألحق... أخوتي والجميع؟‏

    ضحكت الأم وقالت:‏

    ـ كنت أعرف أنك ستطلب مني ذلك... شجرتك في الحوض أمام الباب في كيس صغير شفاف... وإنا كما تراني قد ارتديت ثيابي هيا بنا...‏

    وانطلق طارق مع أمه فرحاً يقفز بخطوات واسعة... واتجها نحو الجبل وهما يغنيان للشجرة... شجرة الحياة أنشودة الحياة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  40. #40
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    في الصحراء الواسعة وتحت أشعة الشمس المحرقة عاشت فوق الرمال منذ زمن بعيد مجموعات كثيرة من الأفاعي. كان منها الكبير ومنها الصغير، منها المرقط والملون، ومنها ماكان قاتماً أو بلون الرمال حتى لاتميزه عنها.‏

    وكانت مجموعات الأفاعي تزحف في أرجاء الصحراء تارة باحثة عن فريسة لها، وتارة أخرى هاربة من عدو يطاردها. وفي الصيف عندما تشتد حرارة الصحراء تنسل إلى باطن الرمال لتهرب من وهج الحرارة اللافح الذي يتعبها ويذهب بنشاطها وقوتها حتى تغدو غير قادرة على الحراك.‏

    فكرت جماعة منها أن تهاجر عن أرض الصحراء اللاهبة نحو الواحات الرطبة حيث الظل كثير والطعام وفير. أما جدة الحيات فلم تشجع الجماعة المهاجرة، بل على العكس قالت:‏

    ـ لقد اعتدنا أن نعيش في الصحارى، ولعلي لا أجد في الواحات شروطاً للعيش أفضل. حذار أيتها الحيات... فكم من المفاجآت تنتظركن في الموطن الجديد.‏

    وفي إحدى الواحات الخضراء أخذت الحيات المهاجرة ترتع فرحة في بقعة منها مستمتعة بالطقس العذب وبشروط السكن المريح ناسية موطنها الأول في الصحراء.‏

    حتى أتت مجموعة من فتيان الكشافة وقرروا أن يخيموا فوق أرض الحيات، قال لهم رئيسهم:‏

    ـ أشعلوا بعض النيران المتفرقة من حولكم فهي تطرد الحيوانات الخبيثة.‏

    وما هي إلا دقائق حتى امتد لهيب النار إلى حيث الحيات فخرجت من أوكارها وقد شعرت بالخطر وهي غاضبة ناقمة.‏

    لم تدر الحية الفضية ذات الألوان المتماوجة ماكان من أمر رفيقاتها فقد كانت تلهو مسرورة مع أحد الأطفال الذي عقد معها صداقة، وكانت تحلم بأنها أصبحت ملكة الحيات جميعاً وهو يقول لها:‏

    ـ كم أنت جميلة ياصديقتي الحية. عيناك تبرقان كأنهما جوهرتان نادرتان. وجلدك اللماع الأملس كم هو ناعم. أحب أن أنظر إليك وأنت تنسلين بخفة يتمايل معها جسمك الطويل الرشيق.‏

    قالت الحية الفضية وهي ترفع رأسها عالياً:‏

    ـ شكراً لك يا صديقي... فأنت تقدر جمالي حق قدره... وأنا أعدك بأنني سأظل صديقة وفية لك، وسأبقي أنيابي السامة بعيدة عن جسمك الطري ولاأسبب لك أي أذى.‏

    وبينما هي تنسحب مزهوة حالمة كانت يدا الطفل تمتدان إلى نبتة من الفطر الأبيض الطري مثل قطعة جبن شهية دون أن يدري أنه من الأنواع السامة. فالتفتت الحية ورأت هذا المشهد وإذا بها تعود مسرعة لتنقذه، وما كان منها إلا أن أبرزت نابيها الحادين وغرزت جزءاً منهما في جسم الطفل حتى تسربت كمية صغيرة من السم تعدل من تأثير سموم الفطر.‏

    استلقت الحية متعبة بينما الصبي يسترد أنفاسه ويغمره عرق غزير. لكن من رآه في هذه الحالة وآثار أنياب الحية لاتزال ظاهرة على يده تيقن أنها هي التي غدرت به وآذته، فهجم بعضهم عليها وقتلها.‏

    أما الطبيب فبعد أن قام بفحوصه على الطفل وسأله عما جرى له تأكد أنه لولا هذا السم الذي غرزته الحية في جسمه لما استطاع أن يتغلب على سم الفطر. فسم الأفعى قاتل كما هو بمقدار معين ترياق شاف.‏

    وهكذا انقسم الناس بين صديق للحية وبين عدو لها، واحتارت الأفاعي متى تكون مسالمة وديعة ومتى تفتك بالناس وظلت سمعتها على هذه الحالة... هل هي صديقة أم عدوة !...‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  41. #41
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    عندما صعدنا إلى سطح منزلنا الريفي الواطئ، كان أخي (سالم) قد صنع طائرات ورقية كثيرة، وناداني لكي أربطها بالخيوط ثم نطلقها معاً نحو السهل، وبما أنني كنت أشعر بمتعة كبيرة وأنا أراها ترفرف كالفراشات فقدأغلقت أذني عن صوت أختي الذي كان كان يرن في أنحاء البيت وهي تناديني كي ألعب معها. هذه المرة كانت الطائرات من الورق المقوى... لونها أزرق رمادي ... ومصممة بشكل متقن كا لو أنها طائرات حقيقية، وقال (سالم):‏

    ـ انظري هذه ياسلمى أنها من معدن شفاف ورقيق هي أوراق القصدير التي خبأها خالد عندما أتتنا هدية خالنا صالح.‏

    تقول سلمى:‏

    ـ آه... لاتذكرني بالهدية ياسالم... فأنا مقهورة منذ ذلك اليوم. لماذا أخفت أمنا كل تلك الأشياء الجميلة؟‏

    أجاب سالم:‏

    ـ ليس هذا وقته الآن. تعالي الحقي بي إلى السطح قبل أن تفطن أمنا لوجودنا في البيت.‏

    ترد سلمى:‏

    ـ سأذهب معك بشرط...‏

    يقول سالم:‏

    ـ أي شرط؟ كنت ستزعلين لو أطلقت طائرتي دون أن تشاهديها.‏

    تجيب سلمى:‏

    ـ كنت سأزعل... ولكن لماذا لم تعطني أمي قطعة قماش جميلة أخيطها ثوباً؟‏

    قالت هذا بينما يسحبها سالم من يدها... قلبها يرفرف كعصفور... لم يكن لديها مثل هذه الأحاسيس نحو الأشياء... تتذكر جدتها وهي تبتسم، وتقول لها:‏

    ـ أنت تكبرين بسرعة ياسلمى...‏

    وأمها تعاملها على أنها طفلة صغيرة... لكنها أصبحت في سن الحادية عشرة... وأنها قريباً ستنهي دراستها الابتدائية. ومادامت (الضيعة) صغيرة إلى هذا الحدوليس فيها مدرسة ثانوية ولا إعدادية فهي حتماً ستنتقل إلى (البلد)، وستكون مثل ابنة عمها (فرح) التي تعلمت حتى المرحلة الجامعية.‏

    فوق السطح تقف سلمى والسهل يمتد أمامها مثل بساط أخضر جميل... تتمنى لو أنها تطير منه وتزقزق مثل عصفورة... أصبحت لا تحب الألعاب التي تخص الصغار.. لكن قصتها مع الطائرات عجيبة... دائماً تحلم بأنها يوماً ما ستركب طائرة..أو ربما تقودها ، من يدري؟ لم ؟ ألا تقود النساء السيارات ؟ ماالفرق ؟ .. صحيح أن قيادة الطائرة أصعب كما تتصور لكن الأمر واحد. أحلامها ترفعها فوق بلاط السطح خفيفة مثل ريشة في الهواء... تحس أنه ينبت لها جناحان... هل سيطول الزمن حتى يأتي هذا المستقبل الذي يحدثونها عنه؟ أمس كتبت في درس التعبير أنها تريد أن تكون طائراً حراً.‏



    صوت الأم يأتي من بعيد وهي تنادي: سلمى.. سلمى... أين أنت؟‏

    تتنبه سلمى، فتنسحب من حلمها وتهرع نحو أمها.‏

    أمام باب المنزل تستقبل الأسرة الخال الذي عاد من المغترب محملاً بالهدايا والأشواق. ومن بين الهمسات والقبلات والأحاديث كانت سلمى تلتصق بخالها، فقد افتقدته كثيراً، يبادرها فيقول:‏

    ـ هيه... وأنت ياسلمى... متى ستبدأ إجازتك المدرسية؟‏

    تتنهد سلمى وتقول:‏

    ـ ليست المشكلة هي الإجازة ياخالي... إنها المرحلة الدراسية القادمة.‏

    يضحك الخال ويقول:‏

    ـ ومالمشكلة في المرحلة القادمة؟ ألن تذهبي إلى المدرسة من جديد؟‏

    تجيب سلمى:‏

    ـ وأين هي المدرسة... في قريتنا لاتوجد سوى مدرسة ابتدائية واحدة... ألا تعرف ذلك؟‏

    يفكر الخال ويهز رأسه:‏

    ـ هكذا إذن.‏

    سلمى تشرد بعيداً.. الجميع يضحكون ويتحدثون وهم مبتهجون بزيارة القريب الذي كان غائباً.‏

    في زاوية الغرفة الخال والأم يهمسان بحديث لم تسمع منه سلمى ولاكلمة واحدة...‏

    وفجأة يقترب الخال منها وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة بدت معها أسنانه البيضاء، وهو يقول:‏

    ـ ما رأيك ياسلمى أن تذهبي معي أثناء الإجازة في عودتي للمغترب؟‏

    ترد سلمى:‏

    ـ ولكن ياخالي...‏

    يقاطعها:‏

    ـ وقبل افتتاح المدرسة تعودين مع زوجتي وأولادي إلى البلد حيث المدارس متوفرة هناك فتقيمين معهم.‏

    تقفز سلمى فرحة وتقول:‏

    - أحقاً هذا يا خالي .. هل هذا ممكن يا أمي تبتسم الأم وتقول :‏

    ـ ولم لا... أليس هذا حلاً معقولاً؟‏

    تنظر سلمى من النافذة فترى الطائرات الورقية التي أطلقتها مع سالم تكبر وتكبر حتى تملأ السماء، وترتفع عالياً حتى تغيب بين الغيوم. وتسمع دوياً هائلاً ما يلبث أن يخفت تدريجياً، فتتنهد وكأنها أصبحت على مقعد الطائرة أمام نافذة صغيرة جداً ولكنها تطل منها على البحار والجبال والسهول.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  42. #42
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    الطفلة (سوسو) تقول لنفسها وهي ترى قطها (عنبر) يموء مواء شديداً قرب الباب:‏

    ـ ليذهب عن بيتي إلى الأزقة والشوارع... إنه قط غدّار. لقد دللته وقدمت له كل حبي ورعايتي، ولم أقصر عليه بشيء... حتى أنني أخذت من مصروفي الخاص فاشتريت له لحماً ولبناً عندما غابت أمي عن البيت.‏

    وفتحت له الباب فأسرع يركض باتجاه الحديقة. وعادت مهمومة وكأنها فقدت عزيزاً. (عنبر) قط أليف وجميل، أشهب اللون، منقط بالأبيض وكأنه نمر، وهي تحبه كثيراً.‏

    ربته منذ تركته أمه تحت شجرة وعمره ثلاثة أيام، فكيف ينساها ويتركها؟ ولكنها لاتريد أن تحجزه عندها بالقوة، وإذا أراد أن يذهب فليفعل.‏

    وفكرت في حوائجه الصغيرة .. فراشه، وصحنه، ووعاء الماء، ماذا ستفعل بها؟ هل سترميها إلى الخارج وراءه أم تحتفظ بها لقط آخر؟.. ولكن لا.. كل القطط كذلك.إنها غدّارة، وليس عندها وفاء لأصحابها.‏

    وعاد القط يموء من جديد قرب الباب مواء كله توسل واستعطاف، فأسرعت (سوسو) لتقول له:‏

    ـ ماذا تريد مني أيها الناكر الجميل؟ اذهب عني... وستعرف قيمة حبي لك عندما تتشرد في الشوارع، ولاتجد الطعام والمأوى.‏

    وما إن فتحت الباب حتى انسل من الحديقة عنكبوت كبير. صرخت (سوسو) عندما أسرع القط (عنبر) فانقض عليه وأنشب فيه أظافره، وظل يضربه حتى فارق الحياة.‏

    قالت (سوسو):‏

    ـ شكراً ياعنبر... كان العنكبوت سيؤذي أخي الصغير النائم في فراشه الآن. أنت قط جيد... ادخل.‏

    أجاب القط:‏

    ـ أنا قط جيد ولكني لن ادخل. أنا أحب أن أعيش معك لكنني أحب حريتي أكثر. كنت صغيراً وكنت بحاجة إلى من يرعاني ويطعمني، وها أنا قد رددت لك شيئاً من فضلك علي.. اتركيني في هذه الحديقة، سأتجول في الطرقات كما أشاء ثم أعود إليك.‏

    ورضيت (سوسو) بهذا فما أغلى الحرية على المخلوق، وهي نفسها لم تعد أمها تحجزها في البيت أو في الحديقة بل هي تذهب إلى المدرسة، وإلى رفيقاتها وقريباتها، كما أنها تسرح وتمرح في النزهات. فلماذا لايكون عنبر كذلك؟ لكنها تذكرت شيئاً هاماً، فتحت الباب وقالت:‏

    ـ عنبر... عنبر.. إياك أن تؤذي نفسك وتتعرض لغدر الكلاب أو الأشرار أو عجلات السيارات.. وانتبه أن تأكل طعاماً مسموماً وقذراً. وعندما تعود ستجد مأواك في الحديقة وكذلك طعامك.‏

    وانتبهت (سوسو) وهي تدخل إلى البيت بارتياح لأن عنبر قتل العنكبوت ولم يأكله، وأنه عندما غادر الحديقة كان يمشي على الرصيف حذراً متنبهاً لأخطار الشارع.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  43. #43
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان في قديم الزمام، ملكٌ كبيرٌ حكيم، اسمه حسَّان.. وكان الملك حسان، يحبُّ الأذكياءَ، ويرفعُ قَدْرَهم، فهو يُقيم مُسابقةً، بينَ حينٍ وآخر، يطرحُ فيها سؤالاً واحداً، ومَنْ يجبْ عنه، يقلّدْهُ وساماً ملكيّاً رفيعاً.‏

    واليوم. هو يومُ المسابقةِ الكبرى..‏

    الملك حسان في شرفةِ القصر، وحولَهُ الوزراء والقُوّاد..‏

    والساحة الواسعة، تغصُّ بالبشر ،من رجالٍ ونساءٍ وأطفال، وكلُّ واحدٍ يقول في سِّرهِ :‏

    - ماسؤالُ اليوم ؟!‏

    لقد حضر الناسُ، من أقصى المملكة، ليسمعوا السؤالَ الجديد ...‏

    - ما أَغلى قطرةٍ في المملكة؟‏

    - ومتى الجواب؟‏

    - في مثل هذا اليوم، من العام القادم .‏

    ***‏

    وانصرف الناسُ، يفكِّرون في السؤال ...‏

    قال طفلٌ لأبيه :‏

    - إذا عرفْتُ أغلى قطرة، هل أنالُ وسامَ الملك؟‏

    ابتسمَ والدهُ، وقال :‏

    - نعم يابني!‏

    قال الطفل :‏

    - قطرة العسل .‏

    - لماذا؟‏

    - لأنها حلوةٌ ولذيذةٌ.‏

    وقالتْ طفلةٌ لأُمِّها :‏

    - أنا أعرفُ أغلى قطرة..‏

    - ماهي؟‏

    - قطرة العطر..‏

    - لماذا؟‏

    - لأنَّها طيِّبةُ الرائحة .‏

    ***‏

    وشُغِلَ الناسً بالقطرات، فهذا يقول :‏

    - إنَّها قطرةُ الزيت..‏

    وذاك يقول :‏

    - إنَّها قطرةُ النفط ..‏

    وأكثرهم يقول :‏

    - سؤالُ الملكِ، ليس سهلاً، كما تظنّون !‏

    فما القطرةُ التي يريد ؟!‏

    ***‏

    قال عقيل :‏

    - لن أهدأَ حتى أعرفَ الجواب ..‏

    وأقبلَ على مطالعةِ الكتب، ومصاحبةِ العلماء‏

    تارةً يقرأُ في كتاب ،وطوراً يصغي إلى عالم...‏

    مضتْ عدَّةُ شهور، ولم يصلْ إلى مايريد!‏

    وذاتَ يوم...‏

    زار عالماً كبيراً، فوجدَهُ مُنكباً على تأليفِ كتاب ...‏

    المحبرةُ أمامه والريشةُ في يده..‏

    وفجأة ..‏

    لمع في ذهنه الجواب :‏

    - إنها قطرةُ الحبر!‏

    رمزُ العلوم والأدبْ‏

    لولاها ضاع تراثنا ..‏

    لولاها ماكانتْ كُتُبْ‏

    ***‏

    وفي مكانْ آخرَ من المملكة، كان ربيعةُ يمشي تعِباً، في أرضٍ قاحلة جرداء ..‏

    اشتدَّ به العطش، ولم يعثرْ على ماء!‏

    ظلَّ يسيرُ حتى وهنَتْ قواه، وأشرفَ على الهلاك .‏

    - ماذا يعمل ؟!‏

    وقف يائساً ، ينظرُ حوالَيه ..‏

    شاهدَ بقعةً خضراء !‏

    لم يصدِّق عينيه، وقالَ مُستغرباً :‏

    - الأرضُ الميتةُ، لا تنتجُ خضرة!‏

    ومع ذلك ..‏

    سارَ نحو البقعة الخضراء، يدفعه أملٌ جديد...‏

    وعندما وصل إليها ،وجد الماء !‏

    أقبل عليه فرِحاً، يشربُ ويشربُ، حتى ارتوى تماماً..‏

    حمد الله، وقعد يستريح، ويتأمَّلُ المياه،‏

    وما يحيط بها، من عشبٍ غضٍّ، ونبتٍ نضير...‏

    وتذكرَّ سؤال الملك، فنهض واقفاً، وقال :‏

    - لقد عرفتُ أغلى قطرة !‏

    إنَّها قطرةُ ماء‏

    فيها أسرارً الحياة‏

    إنَّها قطرةُ ماء‏

    ***‏

    واختلط الحارثُ بأصنافِ الناس ...‏

    شاهدَ البنَّاءَ الذي يحوِّلُ كومةَ الأحجارِ إلى قصر جميل، وشاهد النجارَ الذي يصنعُ من جذعٍ غليظِ خزانةً أنيقة...‏

    وشاهد الفلاح الذي يحوِّلُ أرضه البَوار إلى جنَّةِ أشجارٍ وثمارٍ‏

    شاهد وشاهد كثيراً من العمال، الذين يعمرون الوطن، ويسعدون البشر‏

    وشاهد قطرات العرق، تزين جباههم السُّمر.. عادَ مسروراً ،وهو يقول :‏

    - عرّفْتُها.. عرَفْتُها ... إنَّها قطرةُ العَرَق !‏

    رمزُ النشاطِ والعملْ‏

    تكرهُ كلَّ القاعدينْ‏

    كأنَّها لؤلؤةٌ‏

    تهَوى جِباهَ العاملينْ‏

    ***‏

    أمْا طارق ، فقد وصلَ في أسفارهِ، إلى جنوب البلاد...‏

    وجد الناسَ في هرج ومرج...‏

    سأل عنِ الخبر، فقيل له :‏

    - لقد اجتاز الأعداءُ حدودَ مملكتنا..‏

    دخل السوقَ، فسمع كلماتٍ غاضبة:‏

    - الأعداءُ يقتلون ويحرقون !‏

    - إنَّهم يخربون مابناه العمال !‏

    - ويفسدون زروعَ الفلاحين !‏

    - ويلقون كتبَ العلماءِ في النهر!‏

    - مياههُ تجري سوداء!‏

    - حياتنا أشدُّ سواداً !‏

    - هيّا إلى الجهاد !‏

    - هيّا إلى الجهاد !‏

    انضمَّ طارقٌ إلى المجاهدين، وانطلقوا جميعاً إلى الحرب، يتسابقون إلى الموت، ويبذلون الدماء، حتى أحرزوا النصر، وطردوا الأعداء ...‏

    عادت الأرضُ حرَّةً ..‏

    وعادتِ الحياةُ كريمةً‏

    وعادَ الناسُ فرحين، يحملون شهداءهم الأبرار..‏

    سقطَتْ على يد طارق، قطرةُ دمٍ حمراء ،نظر إليها طويلاً، وقال :‏

    أنتِ أغلى القطرات‏

    أنتِ رمزٌ للفداء‏

    أنتِ عزٌّ للحياة‏

    أنتِ روح للضياء‏

    ***‏

    مضى عامٌ كامل، وحانَ موعدُ الجواب ..‏

    الملك حسان في شرفةِ القصر، وحولَهُ الوزراءُ والقُوّاد..‏

    والساحة الواسعةُ، تغصُّ بالبشر، من رجالٍ ونساءٍ وأطفال ...‏

    وكلُّ واحدٍ يقول في سرِّه :‏

    - مالجوابُ الصحيح ؟!‏

    لقد حضر عقيل، ومعه قطرةُ حبر .‏

    وحضر ربيعة، ومعه قطرةُ ماء .‏

    وحضر الحارث، ومعه قطرةُ عرق .‏

    وحضر طارق، ومعه قطرةُ دم..‏

    إنَّهم أربعةُ رجال، يحملون أربعَ قطرات ..‏

    والسؤالُ الآن :‏

    - مَنْ سيفوزُ بالوسام ؟!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  44. #44
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    في قريتنا كَرْمٌ فسيح ، يملكه " سحلول " البخيل ..‏

    حلَّ فصلُ الصيف، وأينعتْ عناقيدُ العنب ..‏

    فرحتِ العصافيرُ كثيراً، وطارتْ مسرعةً إلى الكرم ، وعندما صارتْ قربه.... قال عصفورٌ مُحذِّراً‏

    - ها هوذا رجلٌ يقفُ وسطَ الكرم!‏

    قال آخر :‏

    - في يده بندقية!‏

    قال ثالث :‏

    - يجب ُ ألاّ نعرّضَ أنفسنا للخطر ..‏

    خافتِ العصافيرُ، وولَّتْ هاربةً..‏

    في اليوم الثاني ..‏

    استفاقتِ العصافيرُ باكراً، وهرعَتْ إلى الكرم،‏

    آملةً أنْ تصله، قبلَ الرجل المخيف ..‏

    وهناك.. فوجئَتْ برؤيةِ الرجلِ واقفاً، لم يبارحْ مكانه!‏

    رمقَتْ بندقيته خائفةً وانصرفتْ حزينةً ..غابَتْ أيّاماً.. ملَّتِ الصبرَ والانتظار، ازداد شوقها إلى الكرم، قصدَتهُ من جديد..‏

    وكم كانتْ دهشتها عظيمةً ، وحينما شاهدَتِ الرجلَ منتصباً، في مكانه نفسِهْ، كأنَّهُ تمثال!‏

    لم تجرؤ العصافيرُ على دخولِ الكرمِ..‏

    لبثتْ ترقبُ الرجلَ عن بُعد..‏

    مرَّ وقتٌ طويل..‏

    لم ينتقل الرجلُ من مكانه ..‏

    قال عصفورٌ ذكيّ :‏

    - هذا ليس رجلاً !‏

    قال آخر :‏

    - أجل ... إنَّهُ لا يتحرَّك!‏

    قالتْ عصفورة:‏

    - عدَّةُ أيامْ مضتْ، وهو جامدٌ مكانه !‏

    قال عصفورٌ جريء:‏

    - سأمضي نحوه ،لاكشفَ أمره‏

    وقالتْ له أمُّهُ :‏

    - أتُلقي بنفسك إلى التهلكة ؟!‏

    قال العصفور الجريء:‏

    - في سبيل قومي العصافير، تهونُ كلُّ تضحية ...‏

    ثم اندفعَ بشجاعةٍ تجاه الرجل ..‏

    نزلَ قريباً منه ..تقدَّم نحوه حذِراً.. لم يتحرَّكِ‏

    الرجل ... تفرَّسَ في بندقيته.. ضحكَ من أعماقه ..‏

    إنَّها عودٌ يابس!‏

    حدَّقَ إلى وجههِ، لم يرَ له عينين ... اطمأنَّ قلبه ..‏

    خاطبه ساخراً :‏

    - مرحباً يا صاحب البندقية!‏

    لم يردَّ الرجل..‏

    كلَّمهُ ثانيةً ..‏

    لم يردَّ أيضاً ..‏

    قال العصفورُ هازئاً :‏

    - الرجلُ الحقيقيّ، له فمٌ يُفتّحُ، وصوتٌ يُسمع!‏

    طارَ العصفور.. حطَّ على قبعةِ الرجلِ.. لم يتحرَّك.. نقرَهُ بقوّةٍ ... لم يتحرَّك.. شدَّ قبعته، فارتمت أرضاً ...‏

    شاهدتْ ذلك العصافيرُ، فضحكتْ مسرورةً، وطارتْ صَوْبَ رفيقها، ثم هبطتْ جميعها فوق الرجل ...‏

    شرعتْ تتجاذبه بالمخالبِ والمناقير.. انطرحَ أرضاً.. اعتلَتً صدره، تنقره وتهبشه ...‏

    انحسرَ رداؤهُ ,... تكشَّفَ عن قشِّ يابس !!‏

    قالت العصافيرُ ساخرة :‏

    - إنَّهُ محشوُّ بالقَشّ ...‏

    قالتْ عصفورة :‏

    - كم خفنا من شاخصٍ لا يُخيف!‏

    قال آخر :‏

    - لولا إقدامُ رفيقنا، لظللنا نعيشُ في خوف .‏

    قال عصفورٌ صغير :‏

    - ياللعجب.. كان مظهره يدلُّ على أنَّهُ رجل!‏

    قال له أبوه :‏

    - لن تخدعنا بعدَ اليومِ المظاهر ..‏

    غرَّدت العصافيرُ، مبتهجةً بهذا الانتصار، ثم دخلَتْ بينَ الدوالي ، فاحتضنتها الأغصان بحبٍّ وحنان ..
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  45. #45
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    في قديم الزمان.. عاشَ ذلك السلطان ..‏

    وكان عنده، ثورٌ أسود، ضخمٌ كبير، كأنَّهُ البنيان!‏

    رأسه كالصخر، قرونه كالحديد ..‏

    إذا سارَ، هزَّ الأرض ..‏

    وإذا خارَ، غلبَ الرعد..‏

    وكان ذلك السلطان، لا يشبعُ من النظرِ إليه، ولا يملُّ من الحديث عنه، وقد جعلَ له خدماً كثيرين، يعنونَ به ويحرسونه ..‏

    خادمٌ يطعمهُ ، وخادمٌ يسقيه .‏

    خادمٌ ينظِّفُهُ، وخادمٌ يداويه ..‏

    خادمٌ ينزِّههُ، وخادمٌ يحميه ..‏

    السلطانُ يحبّهُ كثيراً، والناسُ يكرهونه كثيراً..‏

    لماذا ياترى ؟‏

    تعالَ لنرى ..‏

    ***‏

    الشارع مملوءٌ بالناس..‏

    مابينَ شارٍ أو بائع، مابينَ ماشٍ أو قاعد ..‏

    هذا يعمل، ذاكَ يضحك‏

    ولدٌ يجري، بنتٌ تلعب‏

    شيخُ يمشي على عكّاز‏

    أمٌّ تحملُ طفلاً يرضع‏

    أخرى تمشي، تسحبُ طفلة‏

    حلوة حلوة، مثل الفلَّة‏

    الشارعُ مملوءٌ بالناسِ.‏

    وفجأة ...‏

    جاءَ الصوت، مثل الموت :‏

    - خرجَ الثورُ.. خرجَ الثورُ ..!!‏

    دبَّ الرعبُ بينَ الناسِ ..‏

    هذا يركض، ذاك يركض ..‏

    يهربُ يهربُ كلُّ الناس ..‏

    وقعَ الشيخُ على العكاز‏

    مرَّ الثورُ، وداسَ الشيخ‏

    تركَ الشيخَ، ونطحَ الطفلة‏

    لكنَّ الطفلةَ ما ماتتْ، فاللَّهُ رحيمٌ بالأطفال‏

    ومضى الثورُ إلى البستان.‏

    كسرَ الغرسَ، أكلَ الزرع َ‏

    خرَّب اسوارَ البستان‏

    حلَّ الليلُ.‏

    وعادَ الثورُ إلى السلطان.‏

    حلَّ الليلُ ...‏

    وباتَ الناسُ مع الأحزان ..‏

    ***‏

    هكذا كان يفعل الثور ..‏

    يخرجُ مهرولاً كالغول، فيختفي الرجال، وتتوقَّفُ الأعمال، ويتركُ الأطفالُ ألعابهم، ويهربون إلى البيوت، فتحضنهم أمهاتهم خائفات‏

    ويغلقْنَ دونهم الأبواب .‏

    وتنظرُ العيونُ من الشقوق ..‏

    - هل أوقفه أحدٌ عند حدِّهِ ؟‏

    - لا ...‏

    - لماذا؟‏

    - خوفاً من السلطانِ وجندهِ..‏

    وصبرَ الناسُ محزونين، ينتظرون رحيلَ الظلم..‏

    قال الشيوخ :‏

    - الظلمُ لن يرحل‏

    - لماذا؟‏

    - لأنكم تقبلونه‏

    - ومالعمل ؟!‏

    - إذا رفضتم الظلم، لن يبقى ظالمون‏

    ***‏

    ذاتَ يوم، والعيونُ غافلة ..‏

    أسرع رجالٌ شجعان، وقبضوا على الثور ألجموا فمه، وعصبوا عينيه‏

    ربطوا قوائمه بالحبال، وصاروا يشدُّونها بقوَّة.‏

    غضبَ الثورُ وهاجَ، مدَّ رأسه وقرنيه، واندفعَ..‏

    كالبركان، فاصطدمَ بالجدار، وسقط على الأرض ...‏

    هجمَ عليه الرجال، ووقعوا على رقبتهِ، يذبحونه جاهدين..‏

    الدمُ الأحمر، يدفقُ ويدفق ..‏

    نهضَ الثورُ قويّاً، واندفعَ يجري، ثم وقعَ كالتّل، وسكنَتْ حركته، وفارق الحياة..‏

    تركه الرجال، واختفوا في الحال‏

    ***‏

    علم السلطان بمقتل الثور، فجنَّ جنونه، واستدعى جنودّهُ وخاطبهم قائلاً :‏

    - أيُّها الجنود!‏

    لقد جاء يومكم، فابحثوا عن المجرم اللعين إنْ كان في الأرض فاخرجوهُ ،وإنْ كان في السماء فأنزلوه، والويل ثم الويل لكم إن لم تجدوهُ..!‏

    انتشر العساكرُ والأعوانُ، في كلِّ بقعةٍ... ومكان..‏

    يطوفونَ ويبحثون ..‏

    يراقبونَ ويسألون ..‏

    ومرَّتِ الأيام، تتبعها الأيام ..‏

    وأخفق الجنود، وعادوا للسلطان‏

    لم يحصلوا على خبر، أو يعثروا على أثر!‏

    ***‏

    في اليوم التالي ، كان منادي السلطان، ينتقلُ من مكان إلى مكان، وينادي بين الناس :‏

    جائزةٌ كبيرة‏

    ألف دينار‏

    يأخذها من يخبر السلطان عن قاتل الثور‏

    جائزةٌ كبيرة ..‏

    ألف دينار ..‏

    بُحَّ صوته، والناسُ ساكتون ..‏

    وانصرفَ المنادي، وضاعَ النداء‏

    ***‏

    اغتاظ السلطانُ كثيراً، فجمع وزراءه وقال :‏

    - هل تعلمون أحداً يكرهُ ثوري؟‏

    - الرعيَّةُ كلُّها تحبّهُ يامولانا!‏

    - هل أوقعَ ضرراً بأحد؟‏

    - ثورُ السلطان لا يعرفُ الضرر.‏

    - هل كان أحدٌ يتمنَّى هلاكَه؟‏

    - الناسُ جميعهم يدعون له بالحياة‏

    - ألَمْ يفرحْ أحدٌ لموته ؟‏

    - الرعيةٌ جميعها حزينةٌ لفراقه.‏

    جُمِعَتِ الرعيّةٌ، أمامَ القصر، وخرجَ السلطانُ، فخطبَ وقال:‏

    - أيُّها الشعبُ الطيِّب!‏

    لقد بلغني حبّكم للثور، وحزنكم على فراقه، فعزمتُ على شراءِ ثورٍ آخر، لا مثيلَ له بين الثيران، في جميع الممالكِ والبلدان ، و.. وصرخ الأطفال :‏

    - لا نبغي ثوراً يرعبنا‏

    - لا نرضى العيشَ مع الثيران!‏

    وصرخ الرجال :‏

    - إنْ جاءَ الثورُ سنقتله‏

    - إنْ جاءَ الثورُ سنقتله‏

    واشتعل الغضبُ، وماجتٍ الحشود، كالبحر إذ يموج، وارتفع الهتاف، يدوِّي كالرعود، فارتجفَ السلطان، ودخل القصر ،وغلَّق الأبواب ..‏

    ***‏

    في الصباح الباكر ..‏

    شاع النبأْ العظيم، كالنارِ في الهشيم :‏

    - لقد اختفى السلطان !‏

    - لقد اختفى السلطان !‏

    فقامَتِ الأفراح ،وزالَتِ الأحزان، وعادتِ الحياة، تسيرُ في أمان‏

    هذا يعمل، وذاك يضحك‏

    شيخٌ يمشي على عكاز.‏

    وأمٌ تحملُ طفلاً يرضع ..‏

    أخرى تمشي تسحبُ طفلة‏

    حلوة حلوة، مثل الفلَّة .‏

    تنقزُ في فرحٍ وأمان.‏

    فالثورُ الأحمقُ لن يظهر .‏

    والظلمُ ولَّى مع السلطان .‏

    ***‏

    مضى زمانٌ وزمان، وقصةُ ثورِ السلطان، تنتقلُ من جيلٍ إلى جيل ..‏

    يحكيها الآباءُ للأبناء‏

    وتحكيها الأمهاتُ للبنات ..‏

    الصغارُ ينصتون ، والكبارُ يقولون :‏

    في قديمِ الزمانِ ..‏

    عاشَ ذلكَ السلطان ..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  46. #46
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كانَ رجلٌ فقير، يعولُ أسرةً كبيرةً ..‏

    كثرَتْ نفقاتُ أسرتهِ.. وقلَّ العملُ في قريتهِ، فعزمَ على السفرِ، بحثاُ عن الرزقِ..‏

    ودَّعَ زوجته وأولاده، ومضى ينتقلُ من بلدٍ إلى آخر..‏

    وصلَ إلى مدينةٍ على ساحلِ البحرِ.. وجدَ رجالاً ينقلون صخوراً، وعلى رأسهم رجلٌ مهيبٌ، يشجّعهم على العمل، ويحثَّهم على السرعة ..‏

    وقفَ عندهم، وسأل أحدّهم:‏

    - منْ هذا الرجلُ ؟‏

    - إنَّهُ حاكم البلد..‏

    - لماذا يقف هنا؟‏

    - ليراقبَ العمل ..‏

    انضمَ الرجلُ إلى العمال، ينقلُ معهم الصخور، دون أن يعرفَ الأجور.. صارَ يسرعُ إلى الحجر الكبير، فيحمله على كتفه '، ويضعه في المكان المراد، فإنْ لم يجدْ حجراً كبيراً، حملَ حجرين صغيرين، بينما رفاقه لا يحملون إلا حجراً واحداً، ينتقونه من الأحجار الصغار ..‏

    رأى الحاكمُ نشاطَ الغريبِ، فأُعجبَ به أيَّما إعجاب، ولاحظ الغريبُ نظراتِ الحاكم، فأيقنَ أنَّهُ سينال أجرةً وافية، تفوقُ أجورَ الآخرين، فضاعفَ جهودهُ، وزادَ سرعتهُ ...‏

    انتهى النهار، وحانَ وقتُ استيفاءِ الآجار ..‏

    اصطفَّ العمالُ، بعضهم وراء بعض، وانتصبَ الحاكمُ أمامهم، فشرعوا يمرُّون أمامه، وكلَّما جاءه واحدٌ، أثنى عليه، وقال له :‏

    - عافاك الله‏

    وربّما قالها لبعضهم مرّتين ..‏

    وجاءَ دورُ الغريبِ، فصافحه الحاكمُ بحرارة..وقال له :‏

    - عافاك الله، عافاك الله، عافاك الله ..‏

    فرح الغريبٌ، وقال في سرِّهِ :‏

    - سأحظى بأجرةٍ وافرةٍ .‏

    انتهى الثناءُ والكلام، وانصرفَ الحاكم، وبقي العمال..‏

    سألَ الغريب ُ :‏

    - متى سنأخذُ الأجرة؟‏

    - لقد أخذتَ أجرك‏

    - لم آخذْ شيئاً!‏

    - بل أخذتَ أكثر منّا جميعاً ..‏

    - كيف ؟!‏

    - الحاكمُ قال لك " عافاك الله " ثلاث مرّات!‏

    - وهل هذه هي الأجرة ؟!‏

    - نعم ..‏

    - هذا كلامٌ وثناء!‏

    - حاكمنا يوزِّعُ مدحه بحسبان، ولا يُظلَمُ لديه إنسان ..‏

    أطرقَ الغريبُ يفكِّر.. إنَّهُ جائع، وليس معه نقود .,. خطرَ له خاطر ..‏

    نهض مسرعاً، وتوجَّهَ إلى السوق..‏

    دخلَ مطعماً، وطلبَ طعاماً ..‏

    أكل حتى شبع، ثم قام لينصرف..‏

    أمسكه صاحبُ المطعم، قال :‏

    - أين ثمنُ الطعام؟‏

    - مدَّ يدَكَ ..‏

    مدَّ صاحبُ المطعمُ يده، فصافحه الغريبُ بحرارة، وقال له :‏

    - عافاك الله، عافاك الله، عافاك الله ..‏

    دُهشَ صاحبُ المطعم، وقال غاضباً :‏

    - أريدُ نقوداً .‏

    - لقد أعطيتك‏

    - لم تعطني شيئاً!‏

    - أعطيتك عُملةَ الحاكم‏

    - هل أنتَ مجنون ؟!‏

    - لستُ مجنوناً ..‏

    - هيّا معي إلى الحاكم.‏

    أخذ صاحبُ المطعم الغريبَ، وذهبا إلى حاكم البلد، وحينما وقفا بين يديه، قال صاحبُ المطعم :‏

    - هذا الرجلُ أكلَ طعامي، ولم يدفع الثمن‏

    - نظرَ الحاكمُ إلى الغريب فعرفه.. قال له :‏

    - لمَ لا تدفعُ له ثمنَ طعامه ؟‏

    - لقد دفعت‏

    - ماذا دفعت‏

    - دفعتُ له عملتك‏

    - أيَة عملة ؟‏

    - عملة " عافاك الله " التي أعطيتني إياها.‏

    ضحك الحاكمُ طويلاً، ثم أعطى صاحبَ المطعم، قيمةَ وجْبَتهِ، وأبطلَ تلك العادة، كي لا تشيع الفوضى في مملكته ..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  47. #47
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    تنفَّسَ الصباح، يرشُّ الندى، ويرسلُ الضياء.‏

    وداعبَتْ أناملُ النسيم، أغصانَ الشجرةِ الفارعة، فتمايلَتْ ناعمةُ ناضرة ..‏

    وفتحتِ العصفورة عينيها، فبادرَتْها الشجرةُ قائلةً :‏

    - صباح الخير يا صديقتي العصفورة!‏

    - صباح الخير يا صديقتي الشجرة.!‏

    - هل استيقظَ صغارك ؟‏

    - لم يستيقظوا بعد‏

    - هذا دأبهم كلَّ يوم.. يتأخّرون في النوم‏

    - سأتركهم قليلاً، لأجلبَ لهم طعام الفطور‏

    - إذهبي ولا تقلقي، إنَّهم في أحضاني.‏

    ألقتِ العصفورةُ على فراخها، نظرةَ حبٍّ وحنان، ثم رفرفتْ بجناحيها، وطارتْ في الفضاء..‏

    ظلَّ الفراخُ الثلاثةُ، في عشِّهم الدافئ، وعندماارتفعتِ الشمسُ، فركوا عيونهم، وأفاقوا من نومهم، فلم يجدوا أمَّهم ..‏

    انتظروها طويلاً، ولكنَّها لم ترجعْ!‏

    آلمهم الجوع، وأصابهم الجزع ..‏

    قال أحدهم خائفاً :‏

    - أرجوا أنْ تسلمَ أمُّنا من الصيادين‏

    واضافَ آخر :‏

    - ومن الطيور الجارحة ..‏

    وقال الثالث :‏

    - احفظها لنا يارب !‏

    سمعتِ الشجرةُ حديثَ الفراخ، فأوجستْ منه خيفةً، غير أنَّها كتمَتْ مشاعرَها، وقالتْ مُواسيةً :‏

    - لا تجزعوا ياصغاري، ستعودُ أُمّكم قريباً‏

    - لقد تأخّرَتْ كثيراً!‏

    - كَسْبُ الرزقِ ليس سهلاً .... غداً تكبرون وتعرفون‏

    صمتَ الفراخُ الثلاثة، ونهضَ الفرخُ الأكبرُ، إلى حافَّةَ العشّ، ليرقبَ رجوعَ أُمَّهِ..‏

    تدحرجَتْ حبّةُ قمحٍ كانت تحته ..‏

    رآها أخوهُ الأصغر، فصاح مسروراً :‏

    - هذه حبةُ قمح !‏

    التفتَ الفرخُ الأكبرُ، وقال :‏

    - إنَّها لي‏

    - ليستْ لك‏

    - لقد كانت تحتي‏

    - أنا رأيتها قبلك‏

    لن تأخذَها أبداً ..‏

    اختلف الأخوانِ، وأخذا يتعاركان ..‏

    ومكثَ أخوهما الأوسط، ينظرُ إليهما ويتفرَّج..‏

    حاولت الشجرةُ إنهاءَ النزاع، فلم يستجبْ لها أحد.‏

    قالتْ للفرخ الأوسط :‏

    - لمَ لا تصلحُ بينَ أخويك؟‏

    - لا أتدخَّلُ فيما لا يعنيني ..‏

    - بل يعنيك !‏

    - كيف؟‏

    - أنتم إخوةٌ تعيشون في عشٍّ واحد..‏

    -سأبقى بعيداً عن المتاعب‏

    - لن ترتاحَ في عشٍّ يسودُهُ النِّزاع.‏

    - لا أتدخّلُ فيما لايعنيني‏

    - أوقفتِ الشجرةُ الحوار ، فالفرخُ عنيد، والكلامُ معه لا يفيد..‏

    لم ينتهِ النزاعُ بينَ الفرخين ..‏

    هذا ينقرُ بمنقاره، وذاك يخمشُ بأظافره..‏

    تعبَ الفرخُ الأصغر.. رفع قشَّةً صلبةً، وضربَ أخاه الأكبر.. انتحى هذا جانباً.. أصابت القشةُ عين الفرخِ الأوسطِ، فبدأ يصرخُ متألّماً ..‏

    جاءَهُ أخوه الأصغر، وأخذَ يعتذرُ إليه‏

    وجاءَهُ أخوه الأكبر، وشرع يمسحُ له عينيه ..‏

    وعندما سكنَ ألمهُ، تذكَّرَ قولَ الشجرة " لن ترتاحَ في عشٍّ يسودهُ النزاع "، فأصلح بين أخويه، واعتذرَ الصغيرُ لأخيه الكبير ،وقبَّلَ الكبير أخاه الصغير، وزالَ الخلافُ بينهم ،وعادَ الحبُّ إلى عشّهم ..‏

    قال الفرخ الأوسط :‏

    - أين الحبَّة ؟‏

    - لماذا ؟‏

    - سأقسمها بينكما ..‏

    بحثَ الفرخانِ عن الحبّةِ، فلم يجدا شيئاً!‏

    قال الفرخ الكبير :‏

    - لقد ضاعتْ بين القَشِّ..‏

    وقال الفرخ الأصغر :‏

    - ربما سقطتْ خارجَ العش ..‏

    حزن الفراخُ الثلاثة، على الحبّةِ الضائعة ..‏

    قالتِ الشجرة :‏

    - افرحوا ياأحبّائي، واتركوا الحزن.‏

    - كيف نفرحُ وقد ضاعت الحبّة ؟!‏

    - الحُبُّ الذي عادَ إليكم، أفضلُ من الحبّة بكثير‏

    - صدقْتِ والله !‏

    قالتِ الشجرة :‏

    - عليكم أن تصلحوا العشَّ، قبلَ عودةِ أُمِّكم ..‏

    نظر الفراخ إلى العش، فأدهشهم ما أصابه من تخريب!!‏

    قالتِ الشجرة :‏

    - لقد مات أبوكم دفاعاً عن هذا العش .‏

    - وماالعملُ الآن ؟‏

    - ابنوا بالحُبِّ، ماخربتم بالخلاف‏

    - لن نختلفَ بعد اليوم‏

    أسرعَ الفراخُ الثلاثة، يعملون متعاونين، فأصلحوا العشَّ، ورمَّموا جوانبه، وحينما فرغوا من عملهم، تأمَّلو العشَّ الجميل، وتبادلوا نظراتِ المودَةِ، فأشرقَتْ وجوههم سروراً.‏

    وفجأة ..‏

    صاحتِ الشجرة :‏

    - لقد عادتْ أُمّكم ... لقد عادتْ أُمّكم‏

    هبَّ الفراخُ يزقزقون، ويرقصون، فتعالتْ فوق العشِّ، أغاني الحبِّ والفرح ..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  48. #48
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    وقفَ المعلمُ صالح، أمامَ تلاميذه الصغار، وسألهم قائلاً :

    - أيُّهما أغلى : الذهبُ أم التراب؟

    قال التلاميذ :

    - الذهبُ أغلى من التراب

    وقال أحمد :

    - الترابُ أغلى من الذهب

    ضحكَ التلاميذُ جميعاً..

    قال المعلم صالح :

    - أصبْتَ الحقيقةَ يا أحمد!

    سألَ التلاميذُ دهشين :

    - كيف .؟!

    قال المعلم صالح :

    - اسمعوا هذه القصة، وستعرفون الحقيقة

    قال التلاميذ :

    - نحن منصتون، فما القصة .؟

    قال المعلم صالح :

    يُحكى أنَّ رجلاً هرِماً، اشتدَّ به المرضُ، فدعا ولديه، وقال لهما :

    - ياولدَّيَّ.. لقد تركتُ لكما أرضاً، وهذا الكيسَ من الذهبِ ، فَلْيخترْ كلٌّ منكما مايشاء

    قالَ الولدُ الأصغر :

    - أنا آخذُ الذهب ..

    وقالَ الولدُ الأكبر :

    - وأنا آخذُ الأرض ..

    وماتَ الأبُ بعد أيام، فحزن الولدان كثيراً، ثم أخذ كلُّ واحدٍ نصيبه، من ثروة أبيه، وبدأ الولدُ الأكبر، يعملُ في الأرض، يبذرُ في ترابها القمح، فتعطيه كلُّ حبّةٍ سنبلةً، في كلِّ سنبلةٍ مئةُ حبة، وبعدما يحصدُ القمحَ، يزرعُ موسماً آخر، وثروته تزدادُ يوماً بعد يوم..

    أمّا الولدُ الأصغر، فقد أخذَ ينفقُ من الذهب، شيئاً بعد شيء، والذهبُ ينقصُ يوماً بعد يوم، وذاتَ مرّةٍ، فتحَ الكيسَ، فوجدهُ فارغاً!

    ذهب إلى أخيه، وقال له وهو محزون :



    - لقد نفدَ الذهبُ الذي أخذتهُ.

    - أمَّا ما أخذتُهً أنا فلا ينفدُ أبداً ..

    - وهل أخذْتَ غيرَ أرضٍ مملوءةٍ بالتراب ؟!

    أخرجَ الأخُ الأكبرُ، كيساً من الذهب، وقال :

    - ترابُ الأرضِ، أعطاني هذا الذهب

    قال الأخُ الأصغر ساخراً :

    - وهل يعطي الترابُ ذهباً ؟!

    غضبَ أخوه ،وقال :

    - الخبزُ الذي تأكُلهُ، من تراب الأرض

    والثوبُ الذي تلبسُهُ، من تراب الأرض

    خجل الأخُ الأصغر، وتابعَ الأكبرُ كلامه

    - والثمارُ الحلوةُ، من ترابِ الأرض



    والأزهارُ العاطرةُ، من تراب الأرض

    ودماءُ عروقك ،من ترابِ الأرض

    قال الأخ الأصغر :

    - ما أكثرَ غبائي وجهلي !!

    - لا تحزن يا أخي !

    - كيف لا أحزنُ، وقد أضعْتُ كل شيء ؟!

    - إذا ذهبَ الذهبُ، فالأرضُ باقية.

    - الأرضُ لك، وأنتَ أوْلى بها ..

    - دَعْكَ من هذا الكلام، وهيّا معي إلى الأرض

    ذهبَ الأخوانِ إلى الأرض، فوجدا القطنَ الأبيضَ، يميلُ فوقها ويلمع ..

    امتلأ الأخوان فرحاً ،وهتفَ الأخُ الأصغرُ :



    يا أرضَنا الكريمةْ

    يامنبعَ العطاء


    يا أمَّنا الحبيبة

    نفديكِ بالدماء
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  49. #49
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    أقبلَ الصباحُ المشرق، استيقظتِ الطبيعةُ من سُباتها، وبدأتْ تمارسُ عملها النبيل، في نشر الجمالِ والفرح..‏

    الأزهار البديعة، افتتحتْ معرضَ ألوانها، وشرعتْ تنفحُ بالشذا والعبير‏

    العصافير تغرِّدُ طروبة، وتنثر حولها الألحان، المرج الأخضر، فرش بساطه الناعم، لاستقبال الزائرين.‏

    ورشَّ الندى، قطراتِهِ الوضيئة ، فتلألأ الشجرُ والمرجُ والزهر‏

    وانسابَ النهر، رائقاً صافياً، يرسم لوحاتٍ خضراء، حيثما سار‏

    ومرَّ الهواء بالنهر، فغسل وجهه ،وانطلق نقياً نظيفاً، ينعشُ النفوس، ويداعبُ الغصون، وحينما وصل إلى الأزهار، أعطْتهُ رسالتها العطريّة، ليحملها إلى كلِّ منْ يلقاه..‏

    في هذا اليوم الجميل، خرج للنزهة، ثلاثةُ أولاد ..‏

    طافوا في أرجاء الطبيعة الوادعة، فأحسنت استقبالهم، ومنحتهم كلَّ ماتملك، من متعةٍ وجمال.. وعندما جاعوا، جلسوا على المرج الأخضر، وأخرجوا طعامهم، وأخذوا يأكلون، وبعدما شبعوا، غادروا المرج، تاركين على بساطه الأخضر، عظاماً متناثرة، وقِطع دهن، وقشِر فاكهة، سرعان ماأصبحَتْ مرتعاً للذباب والجراثيم، ومبعثاً للروائح الكريهة، و حزِنَ المرجُ الأخضر، ذهب الأولاد إلى النهر، وقفوا على شاطئه، يتأمَّلونه مسرورين، كانت مياهه مرآةً صافية، ترنو إليها الغصونُ الناضرة، فترى صورتها على صفحة المياه، وتسبح فيه بطاتٌ جميلة، تتهادى كأشرعةٍ بيضاء..‏

    أخذ الأولاد، يرمون البطاتِ بالعُلَب الفارغة .، والقمامة المختلفة ..‏

    هربَتِ البطاتُ بعيداً، وظلَّتِ العلبُ والقمامة، تطفو وتسبح، أمام أعينِ الأولادِ، فراقهم منظرها، وجعلوا يلقون في النهر، كلَّ ماتصل إليه أيديهم ..‏

    تلَّوثت مياهُ النهر، ورحل عنها الصفاء..‏

    حزنتِ الأغصانُ المتدلِّية، وفقدتْ صورتها المرسومة على المياه‏

    انصرف الأولاد فرحين، تراكين وراءهم، نهراً عكِراً حزيناً ..‏

    وصل الأولادُ إلى شجرة فارعة، جلسوا تحتها، وأشعلوا النار، لإعداد الشاي ..‏

    تصاعد دخانٌ كثيف ،من الحطب المحروق، لوَّثَ الهواءَ، وشوَّهَ زرقةَ السماء ..‏

    حزنتِ الأشجارُ والأزهار، وصارت تتنفَّسُ هواءً فاسداً‏

    وحزن الهواءُ ،فاسودَّ وجهه، وترك - مرغماً - رسالته العطريّةِ، وحمل رسالةَ الدخانِ الأسود، ليوصلها إلى كلِّ مَنْ يلقاه ..‏

    أقبل المساءُ ،وانتهتْ نزهةُ الأولاد، فعادواإلى بيوتهم مسرورين، وحدَّثوا أهلَهم عن جمالِ الطبيعة، ونزهة الفرح !!***‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  50. #50
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    سامرٌ تلميذ صغير، في الصفِّ الأوَّل..‏

    يقرأ جيِّداً، ويكتبُ جيّداً.. لولا النقطة!‏

    يراها صغيرة، ليس لها فائدة.‏

    فلا يهتمُّ بها، عندما يكتب‏

    وينساها كثيراً، فتنقص درجته في الإملاء‏

    يعجبُ سامر، ولا يعرف السبب!‏

    يأخذ دفتره، ويسأل المعلِّمة:‏

    أين أخطأت؟!‏

    فتبتسم المعلِّمةُ، وتمدُّ إصبعها، وتقول:‏

    -هذه الغين.. لم تضع لها نقطة‏

    وهذه الخاء.. لم تضع لها نقطة‏

    وهذه، وهذه..‏

    يزعل سامر، ويقول:‏

    -من أجل نقطة صغيرة، تنقصين الدرجة؟!‏

    -النقطة الصغيرة، لها فائدة كبيرة‏

    -كيف؟!‏

    -هل تعرف الحروف؟‏

    -أعرفها جيداً‏

    قالت المعلِّمة:‏

    -اكتب لنا: حاءً وخاء‏

    كتب سامر على السبّورة: ح خ‏

    قالت المعلِّمة:‏

    ما الفرق بين الحاء والخاء؟‏

    تأمّل سامرٌ الحرفين، ثم قال:‏

    -الخاء لها نقطة، والحاء ليس لها نقطة‏

    قالت المعلّمة:‏

    -اكتبْ حرفَ العين، وحرف الغين‏

    كتب سامر على السبورة: ع غ‏

    -ما الفرق بينهما؟‏

    -الغين لها نقطة، والعين بلا نقطة‏

    قالت المعلّمة:‏

    -هل فهمْتَ الآن قيمَةَ النقطة؟‏

    ظلَّ سامر صامتاً، فقالت له المعلّمة:‏

    -اقرأ ما كتبْتُ لكم على السبورة‏

    أخذ سامر يقرأ:‏

    ماما تغسل‏

    ركض الخروف أمام خالي‏

    وضعَتْ رباب الخبزَ في الصحن‏

    قالت المعلِّمة:‏

    اخرجي يا ندى، واقرئي ما كتب سامر‏

    أمسكَتْ ندى، دفترَ سامر، وبدأَتْ تقرأ، بصوت مرتفع:‏

    ماما تعسل‏

    ركض الحروفُ أمام حالي‏

    وضعَتْ ربابُ الحبرَ في الصحن‏

    ضحك التلاميذ، وضحك سامر‏

    هدأ التلاميذ جميعاً، وظلّ سامر يضحك..‏

    قالت المعلِّمة:‏

    -هل تنسى النقطة بعد الآن؟‏

    قال سامر:‏

    -كيف أنساها، وقد جعلَتِ الخبزَ حبراً،‏

    والخروفَ حروفاً!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

صفحة 1 من 6 123 ... الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •